فصل: تفسير الآيات رقم (1- 2)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 83‏]‏

‏{‏فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏80‏)‏ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ‏(‏81‏)‏ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏82‏)‏ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏83‏)‏‏}‏

استفعل هنا بمعنى المجرد، يئس واستيأس بمعنى واحد نحو‏:‏ سخر واستسخر، وعجب واستعجب‏.‏ وزعم الزمخشري أن زيادة السين والتاء في المبالغة قال‏:‏ نحو ما مر في استعصم انتهى‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ استيأسوا استفعلوا، من أيس مقلوباً من يئس، ودليل القلب كون ياء أيس لم تنقلب ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها‏.‏ ومعنى خلصوا نجياً‏:‏ انفردوا من غيرهم يناجي بعضهم بعضاً‏.‏ والنجي فعيل بمعنى مفاعل، كالخليط والعشير‏.‏ ومعنى المصدر الذي هو التناجي كما قيل‏:‏ النجوى بمعنى التناجي، وهو لفظ يوصف به من له نجوى واحداً كان أو جماعة، مؤنثاً أو مذكراً، فهو كعدل، ويجمع على أنجية قال لبيد‏:‏

وشهدت أنجية الأفاقة عالياً *** كعبي وأرداف الملوك شهود

وقال آخر‏:‏

إني إذا ما القوم كانوا أنجيه *** ويقول‏:‏ قوم نجى وهم نجوى تنزيلاً للمصدر منزلة الأوصاف‏.‏ ويجوز أن يكون هم نجى من باب هم صديق، لأنه بزنة المصادر محصواً للتناجي، ينظرون ماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم لهذا الذي دهمهم من الخطب فيه، فاحتاجوا إلى التشاور‏.‏ وكبيرهم أي‏:‏ رأياً وتدبيراً وعلماً، وهو شمعون قاله‏:‏ مجاهد‏.‏ أو كبيرهم في السن وهو روبيل قاله‏:‏ قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ في العقل والرأي، وهو يهوذا‏.‏ ذكرهم الميثاق في قول يعقوب‏:‏ لتأتنني به إلا أن يحاط بكم، وما زائدة أي‏:‏ ومن قبل هذا فرطتم في يوسف‏.‏ ومن قبل متعلق بفرطتم، وقد جوزوا في إعرابه وجوهاً‏:‏ أحدها‏:‏ أن تكون ما مصدرية أي‏:‏ ومن قبل تفريطكم‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ على أن محل المصدر الرفع على الابتداء، وخبره الظرف، وهو ومن قبل ومعناه‏:‏ ووقع من قبل تفريطكم في يوسف‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ولا يجوز أن يكون قوله‏:‏ من قبل، متعلقاً بما فرطتم، وإنما تكون على هذا مصدرية، التقدير‏:‏ من قبل تفريطكم في يوسف واقع ومستقر‏.‏ وبهذا القدر يتعلق قوله من قبل انتهى‏.‏ وهذا وقول الزمخشري راجع إلى معنى واحد وهو‏:‏ إن ما فرطتم يقدر بمصدر مرفوع بالابتداء، ومن قبل في موضع الخبر، وذهلا عن قاعدة عربية، وحق لهما أن يذهلا وهو أنّ هذه الظروف التي هي غايات إذا ثبتت لا تقع أخباراً للمبتدأ جرت أو لم تجر، تقول‏:‏ يوم السبت مبارك والسفر بعده، ولا يجوز والسفر بعد وعمروزيد خلفه‏.‏ ولا يقال‏:‏ عمروزيد خلف‏.‏ وعلى ما ذكراه يكون تفريطكم مبتدأ، ومن قبل خبر، وهو مبني، وذلك لا يجوز وهذا مقرر في علم العربية‏.‏ ولهذا ذهب أبو علي إلى أنّ المصدر مرفوع بالابتداء، وفي يوسف هو الخبر أي‏:‏ كائن أو مستقر في يوسف‏.‏ والظاهر أنّ في يوسف معمول لقوله‏:‏ فرطتم، لا أنه في موضع خبر‏.‏ وأجاز الزمخشري وابن عطية‏:‏ أن تكون ما مصدرية، والمصدر المسبوك في موضع نصب، والتقدير‏:‏ ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقاً من قبل وتفريطكم في يوسف‏.‏

وقدره الزمخشري‏:‏ وتفريطكم من قبل في يوسف، وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيد، لأنّ فيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف الذي هو على حرف واحد، وبين المعطوف، فصار نظير‏:‏ ضربت زيداً وبسيف عمراً‏.‏ وقد زعم أبو علي الفارسي أنه لا يجوز ذلك إلا في ضرورة الشعر‏.‏ وأما تقدير الزمخشري‏:‏ وتفريطكم من قبل في يوسف، فلا يجوز لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل لحرف مصدري والفعل عليه، وهو لا يجوز‏.‏ وأجاز أيضاً أن تكون موصولة بمعنى الذي‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ومحله الرفع أو النصب على الوجهين انتهى‏.‏ يعني بالرفع أن يرتفع على الابتداء ومن قبل الخبر، وقد ذكرنا أن ذلك لا يجوز‏.‏ ويعني بالنصب أن يكون عطفاً على المصدر‏.‏ المنسبك من قوله‏:‏ إن أباكم قد أخذ، وفيه الفصل بين حرف العطف الذي هو الواو، وبين المعطوف‏.‏ وأحسن هذه الأوجه ما بدأنا به من كون ما زائدة، وبرح التامة تكون بمعنى ذهب وبمعنى ظهر، ومنه برح الخفاء أي ظهر‏.‏ وذهب لا ينتصب الظرف المكاني المختص بها، إنما يصل إليه بوساطة في فاحتيج إلى اعتقاد تضمين برح بمعنى فارق، فانتصب الأرض على أنه مفعول به‏.‏ ولا يجوز أن تكون ناقصة لأنه لا ينعقد من اسمها، والأرض المنصوب على الظرف مبتدأ وخبر، لأنه لا يصل إلا بحرف في‏.‏ لو قلت‏:‏ زيد الأرض لم يجز، وعني بالأرض أرض مصر التي فيها الواقعة، ثم غيا ذلك بغايتين‏:‏ إحداهما‏:‏ خاصة وهي قوله‏:‏ حتى يأذن لي أبي، يعني في الانصراف إليه‏.‏ والثانية‏:‏ عامة وهي قوله‏:‏ أو يحكم الله لي، لأنّ إذن الله له هو من حكم الله له في مفارقة أرض مصر، وكأنه لما علق الأمر بالغاية الخاصة رجع إلى نفسه فأتى بغاية عامة تفويضاً لحكم الله تعالى، ورجوعاً إلى من له الحكم حقيقة، ومقصوده التضييق على نفسه، كأنه سجنها في القطر الذي أداه إلى سخط أبيه إبلاء لعذره‏.‏ وحكم الله تعالى له بجميع أنواع العذر كالموت، وخلاص أخيه، أو انتصافه من أخذ أخيه‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ أو يحكم الله لي بالسيف، أو غير ذلك‏.‏ والظاهر أن أويحكم معطوف على يأذن‏.‏ وجوز أن يكون منصوباً بإضمار أن بعد أو في جواب النفي، وهو‏:‏ فلن أبرح الأرض أي‏:‏ إلا أن يحكم الله لي، كقولك‏:‏ لألزمنك أو تقضيني حقي، أي‏:‏ إلا أن تقضيني، ومعناها ومعنى الغاية متقاربان‏.‏

روي أنهم لما وصلوا إلى يعقوب أخبروه بالقصة فبكى وقال‏:‏ يا بني ما تذهبون عني مرة إلا نقصتم، ذهبتم فنقصت شمعون حيث ارتهن، ثم ذهبتم فنقصتم بنيامين وروبيل‏.‏ والظاهر أنّ الأمر بالرجوع هو من قول كبيرهم‏.‏

وقيل‏:‏ من قول يوسف لهم‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ سرق ثلاثياً مبنياً للفاعل، إخباراً بظاهر الحال‏.‏ وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، والكسائي في رواية سرق بتشديد الراء مبنياً للمفعول، لم يقطعوا عليه بالسرقة بل ذكروا أنه نسب إلى السرقة‏.‏ ويكون معنى‏:‏ وما شهدنا إلا بما علمنا من التسريق‏.‏ وما كنا للغيب أي‏:‏ للأمر الخفي حافظين، أسرق بالصحة أم دس الصاع في رحله ولم يشعر‏؟‏ وقرأ الضحاك‏:‏ سارق اسم فاعل، وعلى قراءة سرق وسارق اختلف التأويل في قوله‏:‏ إلا بما علمنا‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ بما علمنا من سرقته، وتيقناً لأنّ الصواع أخرج من وعائه، ولا شيء أبين من هذا‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ أي، وقولنا لك إن ابنك سرق إنما هي شهادة عندك بما علمناه من ظاهر ما جرى، والعلم في الغيب إلى الله تعالى ليس ذلك في حفظنا، هذا قول ابن إسحاق‏:‏ وقال ابن زيد‏:‏ أرادوا وما شهدنا به عند يوسف أن السارق يسترق في شرعك، إلا بما علمنا من ذلك، وما كنا للغيب حافظين أنّ السرقة تخرج من رحل أحدنا، بل حسبنا أن ذلك لا يكون البتة، فشهدنا عنده حين سألنا بعلمنا‏.‏ ويحتمل قوله‏:‏ وما كنا للغيب حافظين أي‏:‏ حين واثقناك، إنما قصدنا أن لا يقع منا نحن في جهته شيء يكرهه، ولم نعلم الغيب في أنه سيأتي هو بما يوجب رقه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وما كنا للغيب حافظين، وما علمنا أنه يسترق حين أعطيناك الموثق، أو ربما علمنا أنك تصاب كما أصبت بيوسف‏.‏ ومن غريب التفسير أن المعنى قولهم‏:‏ للغيب، لليل والغيب الليل بلغة حمير، وكأنهم قالوا‏:‏ وما شهدنا إلا بما علمنا من ظاهر حاله، وما كنا بالليل حافظين لما يقع من سرقته هو، أو التدليس عليه‏.‏ وفي الكلام حذف تقديره‏:‏ رجعوا إلى أبيهم وأخبروه بالقصة‏.‏ وقول من قال‏:‏ ارجعوا ثم استشهدوا بأهل القرية التي كانوا فيها وهي مصر قاله‏:‏ ابن عباس أي‏:‏ أرسل إلى القرية واسأل عن كنه القصة‏.‏ والعير كانوا قوماً من كنعان من جران يعقوب‏.‏ وقيل‏:‏ من أهل صنعاء‏.‏ فالظاهر أن ذلك على إضمار أهل كأنه قيل‏:‏ وسل أهل القرية وأهل العير، إلا إن أريد بالعير القافلة، فلا إضمار في قوله والعير‏.‏ وأحالوا في توضيح القصة على ناس حاضرين الحال فيشهدون بما سمعوا، وعلى ناس غيب يرسل إليهم فيسألون‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ بل أحالوه على سؤال الجمادات والبهائم حقيقة، ومن حيث هو نبي، ولا يبعد أن يخبره بالحقيقة، وحذف المضاف هو قول الجمهور‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا مجاز‏.‏ وحكى أبو المعالي عن بعض المتكلمين أنه قال‏:‏ هذا من الحذف وليس من المجاز قال‏:‏ وإنما المجاز لفظة استعيرت لغير ما هي له قال‏:‏ وحذف المضاف هو عين المجاز، وعظمه هذا مذهب سيبويه وغيره‏.‏

وحكى أنه قول الجمهور أو نحو هذا انتهى‏.‏ وفي المحصول لأبي عبد الله محمد الرازي، وفي مختصراته أنّ الإضمار والمجاز متباينان ليس أحدهما قسماً من الآخر‏.‏ وبل للإضراب، فيقتضي كلاماً محذوفاً قبلها حتى يصح الإضراب فيها وتقديره‏:‏ ليس الأمر حقيقة كما أخبرتم، بل سولت‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والظاهر أنّ قوله بل سولت لكم أنفسكم أمراً، إنما هو ظن سوء بهم كما كان في قصة يوسف قبل، فاتفق أنّ صدق ظنه هناك، ولم يتحقق هنا‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ بل سولت لكم أنفسكم أمراً أردتموه، وإلا فما أدري ذلك الرجل أنّ السارق يؤخذ بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم‏.‏ وتقدم شرح سولت، وإعراب فصبر جميل‏.‏ ثم ترجى أن الله يجمعهم عليه وهم‏:‏ يوسف، وبنيامين، وكبيرهم على الخلاف الذي فيه‏.‏ وترجى يعقوب للرؤيا التي رآها يوسف، فكان ينتظرها ويحسن ظنه بالله في كل حال‏.‏ ولما أخبر به عن ملك مصر أنه يدعو له برؤية ابنه، ووصفه الله بهاتين الصفتين لائق بما يؤخره تعالى من لقاء بنيه، وتسليم لحكمة الله فيما جرى عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 87‏]‏

‏{‏وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏84‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ‏(‏85‏)‏ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏86‏)‏ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

فتئ من أخوات كان الناقصة قال أوس بن حجر‏:‏

فما فتئت حي كان غبارها *** سرادق بوم ذي رياح يرفع

وقال أيضاً‏:‏

فما فتئت خيل تثوب وتدعي *** ويلحق منها لاحق وتقطع

ويقال فيها‏:‏ فتأ على وزن ضرب، وأفتأ على وزن أكرم‏.‏ وزعم ابن مالك أنها تكون بمعنى سكن وأطفأ، فتكون تامة‏.‏ ورددنا عليه ذلك في شرح التسهيل، وبينا أن ذلك تصحيف منه‏.‏ صحف الثاء بثلاث، بالتاء بثنتين من فوق، وشرحها بسكن وأطفأ‏.‏ الحرض‏:‏ المشفي على الهلاك يقال‏:‏ حرض فهو حرض بكسر الراء، حرضاً بفتحها وهو المصدر، ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والجمع‏.‏ وأحرضه المرض فهو محرض قال‏:‏

أرى المرء كالأزواد يصبح محرضا *** كاحراض بكر في الديار مريض

وقال الآخر‏:‏

إني امرؤ لج بي حب فأحرضني *** حتى بليت وحتى شفني السقم

وقال‏:‏ رجل حرض بضمتين كجنب وشلل‏.‏

‏{‏وتولى عنهم وقال يأسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم‏.‏ قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين‏.‏ قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون‏.‏ يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون‏}‏‏:‏ وتولى عنهم أي أعرض عنهم كراهة لما جاؤوا به، وأنه ساء ظنه بهم، ولم يصدق قولهم، وجعل يتفجع ويتأسف‏.‏ قال الحسن‏:‏ خصت هذه الأمة بالاسترجاع‏.‏ ألا ترى إلى قول يعقوب‏:‏ يا أسفي، ونادى الأسف على سبيل المجاز على معنى‏:‏ هذا زمانك فاحضر‏.‏ والظاهر أنه يضاف إلى ياء المتكلم قلبت ألفاً، كما قالوا‏:‏ في يا غلامي يا غلاما‏.‏ وقيل‏:‏ هو على الندبة، وحذف الهاء التي للسكت‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ والتجانس بين لفظتي الأسف ويوسف مما يقع مطبوعاً غير مستعمل فيملح ويبدع، ونحوه‏:‏ اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم، وهم ينهون عنه وينأون عنه يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، من سبأ بنبإ انتهى‏.‏ ويسمى هذا تجنيس التصريف، وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف‏.‏ وذكر يعقوب ما دهاه من أمر بنيامين، والقائل لن أبرح الأرض فقدانه يوسف، فتأسف عليه وحده، ولم يتأسف عليهما، لأنه هو الذي لا يعلم أحيّ هو أم ميت‏؟‏ بخلاف أخوته‏.‏ ولأنه كان أصل الرزايا عنده، إذ ترتبت عليه، وكان أحب أولاده إليه، وكان دائماً يذكره ولا ينساه‏.‏ وابيضاض عينيه من توالي العبرة، فينقلب سواد العين إلى بياض كدر‏.‏ والظاهر أنه كان عمي لقوله‏:‏ فارتد بصيراً‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وما يستوي الأعمى والبصير‏}‏ فقابل البصير بالأعمى‏.‏ وقيل‏:‏ كان يدرك ادراكاً ضعيفاً، وعلل الابيضاض بالحزن، وإنما هو من البكاء المتوالي، وهو ثمرة الحزن، فعلل بالأصل الذي نشأ منه البكاء وهو الحزن‏.‏

وقرأ ابن عباس ومجاهد‏:‏ من الحزن بفتح الحاء والزاي، وقتادة‏:‏ بضمها، والجمهور‏:‏ بضم الحاء وإسكان الزاي‏.‏ والكظيم إما للمبالغة وهو الظاهر اللائق بحال يعقوب أي‏:‏ شديد الكظم كما قال‏:‏ ‏{‏والكاظمين الغيظ‏}‏ ولم يشك يعقوب إلى أحد، وإنما كان يكتمه في نفسه، ويمسك همه في صدره، فكان يكظمه أي‏:‏ يرده إلى قلبه ولا يرسله بالشكوى والغضب والضجر‏.‏ وإما أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول، وهو لا ينقاس، وقاله قوم كما قال في يونس‏:‏ ‏{‏إذ نادى وهو مكظوم‏}‏ قال ابن عطية‏:‏ وإنما يتجه على تقدير أنه مليء بحزنه، فكأنه كظم حزنه في صدره‏.‏ وفسر ناس الكظيم بالمكروب وبالمكمود‏.‏ وروي‏:‏ أنه ما جفت عيناه من فراق يوسف إلى لقائه ثمانين عاماً، وأنّ وجده عليه وجد سبعين ثكلى، وأجره أجر مائة شهيد‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فهو كظيم، فهو مملوء من الغيظ على أولاده، ولا يظهر ما يسوؤهم انتهى‏.‏ وقد ذكرنا أنّ فعيلاً بمعنى مفعول لا ينقاس، وجواب القسم تفتؤ حذفت منه، لا لأنّ حذفها جائز، والمعنى‏:‏ لا تزال‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لا تفتر من حبه، كأنه جعل الفتوء والفتور أخوين، والحرض الذي قدرنا موته‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ما دون الموت‏.‏ وقال قتادة‏:‏ البالي الهرم، وقال نحوه‏:‏ الضحاك والحسن‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ الفاسد الذي لا عقل له‏.‏ وكأنهم قالوا له ذلك على جهة تفنيد الرأي أي‏:‏ لا تزال تذكر يوسف إلى حال القرب من الهلاك، أو إلى أنْ تهلك فقال هو‏:‏ إنما أشكو بثي وحزني إلى الله أي‏:‏ لا أشكو إلى أحد منكم، ولا غيركم‏.‏ وقال أبو عبيدة وغيره‏:‏ البث أشدّ الحزن، سمي بذلك لأنه من صعوبته لا يطيق حمله، فيبثه أي ينشره‏.‏ وقرأ الحسن وعيسى‏:‏ وحزني بفتحتين‏.‏ وقرأ قتادة‏:‏ بضمتين‏.‏ وأعلم من الله ما لا تعلمون أي‏:‏ أعلم من صنعه ورحمته وحسن ظني به أنه يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب، قاله الزمخشري‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أنه أشار إلى الرؤيا المنتظرة، أو إلى ما وقع في نفسه من قول ملك مصر إني أدعو له برؤيته ابنه قبل الموت‏.‏ وقيل‏:‏ رأى ملك الموت في منامه فسأله‏:‏ هل قبضت روح يوسف‏؟‏ فقال‏:‏ لا، هو حي فاطلبه‏.‏ اذهبوا‏:‏ أمر بالذهاب إلى الأرض التي جاؤوا منها وتركوا بها أخويهم بنيامين والمقيم بها، وأمرهم بالتحسس وهو الاستقصاء، والطلب بالحواس، ويستعمل في الخير والشر‏.‏ وقرئ‏:‏ بالجيم، كالذي في الحجرات‏:‏ ‏{‏ولا تجسسوا‏}‏ والمعنى‏:‏ فتحسسوا نبأ من أمر يوسف وأخيه، وإنما خصهما لأن الذي أقام وقال‏:‏ فلن أبرح الأرض، إنما أقام مختاراً‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ تيأسوا، وفرقة‏:‏ تأيسوا‏.‏ وقرأ الأعرج‏:‏ تئسوا بكسر التاء‏.‏ وروح الله رحمته، وفرجه، وتنفيسه‏.‏ وقرأ عمر بن عبد العزيز، والحسن، وقتادة‏:‏ من روح الله بضم الراء‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وكان معنى هذه القراءة لا تيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه، فإنّ من بقي روحه يرجى‏.‏ ومن هذا قول الشاعر‏:‏

وفي غير من قدورات الأرض فاطمع *** ومن هذا قول عبيد بن الأبرص‏:‏

وكل ذي غيبة يؤوب *** وغائب الموت لا يؤوب

وقال الزمخشري‏:‏ من روح الله بالضم أي من رحمته التي تحيا بها العباد انتهى‏.‏ وقرأ أبيّ من رحمة الله من صفات الكافر، إذ فيه التكذيب بالربوبية، أو الجهل بصفات الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 89‏]‏

‏{‏فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ‏(‏88‏)‏ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

المزجاة‏:‏ المدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقاراً من أزجيته إذا دفعته وطردته، والريح تزجي السحاب‏.‏ وقال حاتم الطائي‏:‏

لبيك على ملحان ضيف مدفع *** وأرملة تزجي مع الليل أرملا

‏{‏فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين‏.‏ قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون‏}‏‏:‏ في الكلام حذف تقديره‏:‏ فذهبوا من الشام إلى مصر ودخلوها، فلما دخلوا عليه، والضمير في عليه عائد على يوسف، وكان آكد ما حدثوه فيه شكوى ما أصابهم من الجهد قبل ما وصاهم به من تحسس نبأ يوسف وأخيه‏.‏ والضر‏:‏ الهزال من الشدة والجوع، والبضاعة كانت زيوفاً قاله ابن عباس‏.‏ وقال الحسن‏:‏ قليلة‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ ناقصة‏.‏ وقيل‏:‏ كانت عروضاً‏.‏ قيل‏:‏ كانت ضوفاً وسمناً‏.‏ وقيل‏:‏ صنوبراً وحبة الخضراء وهي الفستق قاله‏:‏ أبو صالح، وزيد بن أسلم، وقيل‏:‏ سويق المقل والأقط، وقيل‏:‏ قديد وحش‏.‏ وقيل‏:‏ حبالاً وأعدالاً وأقتاباً، ثم التمسوا منه إيفاء الكيل‏.‏ وقد استدل بهذا على أن الكيل على البائع ولا دليل فيه‏.‏ وتصدق علينا أي‏:‏ بالمسامحة والإغماض عن رداءة البضاعة، أو زدنا على حقنا، فسموا ما هو فضل وزيادة لا تلزمه صدقة‏.‏ قيل‏:‏ لأن الصدقات محرمة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏ وقيل‏:‏ كانت تحل لغير نبينا صلى الله عليه وسلم‏.‏ وسئل ابن عيينة عن ذلك فقال‏:‏ ألم تسمع وتصدق علينا، أراد أنها كانت حلالاً لهم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ والظاهر أنهم تمسكنوا له وطلبوا أن يتصدق عليهم، ومن ثم رق لهم وملكته الرحمة عليهم، فلم يتمالك أن عرفهم نفسه‏.‏ وقوله إنّ الله يجزي المتصدقين شاهد، لذلك لذكر الله وجزائه انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ كانت الصدقة محرمة، ولكن قالوها تجوز استعطافاً منهم له في المبايعة كما تقول لمن ساومته في سلعة‏:‏ هبني من ثمنها كذا، فلم يقصد أن يهبك، وإنما حسنت معه الأفعال حتى يرجع منك إلى سومك‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ إنما خصوا بقولهم‏:‏ وتصدق علينا أمر أخيهم بنيامين أي‏:‏ أوف لنا الكيل في المبايعة، وتصدق علينا برد أخينا على أبيه‏.‏ وقال النقاش في قوله‏:‏ إن الله يجزي المتصدقين، هي من المعاريض التي هي مندوحة عن الكذب، وذلك أنهم كانوا يعتقدونه ملكاً كافراً على غير دينهم‏.‏ ولو قالوا‏:‏ إن الله يجزيك بصدقتك في الآخرة كذبوا، فقالوا له لفظاً يوهم أنهم أرادوه، وهم يصح لهم إخراجه منه بالتأويل‏.‏ وروي أنهم لما قالوا له‏:‏ مسنا وأهلنا الضر واستعطفوه، رق لهم ورحمهم‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ وارفض دمعه باكياً، فشرع في كشف أمره إليهم‏.‏ فيروي أنه حسر قناعة وقال لهم‏:‏ هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه أي‏:‏ من التفريق بينهما في الصغر، وإذاية بنيامين بعد مغيب يوسف‏؟‏ وكانوا يذلونه ويشتمونه‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ ونسبهم إما إلى جهل المعصية، وإما إلى جهل السيآت وقلة الحنكة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أتاهم من جهة الدين وكان حليماً موفقاً، فكلمهم مستفهماً عن معرفة وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب فقال‏:‏ هل علمتم قبح ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون لا تعلمون قبحه، فلذلك أقدمتم عليه يعني‏:‏ هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه‏؟‏ لأنّ علم القبح يدعو إلى الاستقباح، والاستقباح يجر التوبة، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحاً لهم في الدين، وإيثاراً لحق الله على حق نفسه في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب وينفث المصدور ويشتفي المغيظ المحنق ويدرك ثأره الموتور، فلله أخلاق الأنبياء ما أوطاها وأسمحها، ولله حصى عقولهم ما أرزنها وأرجحها انتهى‏!‏ وقيل‏:‏ لم يرد نفي العلم عنهم لأنهم كانوا علماء، ولكنهم لما فعلوا ما لا يقتضيه العلم، وتقدم عليه إلا جاهل سماهم جاهلين‏.‏ وفي التحرير ما لخص منه وهو أن قول الجمهور‏:‏ هل علمتم استفهام معناه التقريع والتوبيخ، ومراده تعظيم الواقعة أي‏:‏ ما أعظم ما ارتكبتم من يوسف‏.‏ كما يقال‏:‏ هل تدري من عصيت‏؟‏ وقيل‏:‏ هل بمعنى قد، لأنهم كانوا عالمين، وفعلتم بيوسف إفراده من أبيهم، وقولهم‏:‏ بأن الذئب أكله، وإلقاؤه في الجب وبيعه بثمن بخس إن كانوا هم الذين باعوه، وقولهم‏:‏ إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل، والذي فعلوا بأخيه أذاهم له وجفاؤهم له، واتهامه بسرقة الصاع، وتصريحهم بأنه سرق، ولم يذكر لهم ما إذ واجه أباهم تعظيماً لقدره وتفخيماً لشأنه أن يذكره مع نفسه وأخيه‏.‏ قال ابن عباس، والحسن‏:‏ جاهلون صبيان‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ مذنبون‏.‏ وقيل‏:‏ جاهلون بما يجب من بر الأب، وصلة الرحم، وترك الهوى‏.‏ وقيل‏:‏ جاهلون بما يؤول إليه أمر يوسف‏.‏ وقيل‏:‏ جاهلون بالفكر في العاقبة، وعدم النظر إلى المصلحة‏.‏ وقال المفسرون‏:‏ وغرض يوسف توبيخ إخوته وتأنيبهم على ما فعلوا في حق أبيهم وفي حق أخويهم، قال‏:‏ والصحيح أنه قال ذلك تأنيساً لقلوبهم، وبسط عذر كأنه قال‏:‏ إنما أقدمكم على ذلك الفعل القبيح جهالة الصبا أو الغرور، وكأنه لقنهم الحجة كقوله‏:‏ ‏{‏ما غرك بربك الكريم‏}‏ وما حكاه ابن الهيصم في قصة من أنه صلبهم، والثعلبي في حكايته أنه غضب عليهم فأمر بقتلهم فبكوا وجزعوا، فرق لهم وقال‏:‏ هل علمتم الآية‏:‏ لا يصح البتة، وكان يوسف من أرق خلق الله وأشفقهم على الأجانب، فكيف مع إخوته ولما اعترفوا بالخطأ قال‏:‏ لا تثريب عليكم الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 93‏]‏

‏{‏قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏90‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ‏(‏91‏)‏ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏92‏)‏ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

الإيثار‏:‏ لفظ يعم جميع التفضل وأنواع العطايا‏.‏ التثريب‏:‏ التأنيب والعتب، وعبر بعضهم عنه بالتعبير‏.‏ ومنه «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ولا يثرب» أي لا يعبر‏.‏ وأصله من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش، ومعناه‏:‏ إزالة الثرب، كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع، لأنه إذا ذهب كان ذلك غاية الهزال، فضرب مثلاً للتقريع الذي يمزق الأعراض، ويذهب بهاء الوجه‏.‏

‏{‏قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين‏.‏ قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين‏.‏ قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين‏.‏ اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً وأتوني بأهلكم أجمعين‏}‏‏:‏ لما خاطبهم بقوله‏:‏ هل علمتم‏؟‏ أدركوا أنه لا يستفهم ملك لم ينشأ عندهم، ولا تتبع أحوالهم، وليس منهم فيما يظهر إلا وعنده علم بحالهم فيقال‏:‏ إنه كان يكلمهم من وراء حجاب، فرفعه ووضع التاج وتبسم، وكان يضيء ما حوله من نور تبسمه أو رأوا لمعة بيضاء كالشامة في فرقه حين وضع التاج وكان مثلها لأبيه وجده وسارة، فتوسموا أنه يوسف، واستفهموه استفهام استخبار‏.‏ وقيل‏:‏ استفهام تقرير، لأنهم كانوا عرفوه بتلك العلامات التي سبق ذكرها‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ كيف عرفوه‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ رأوا في روائه وشمائله حين كلمهم بذلك ما شعروا به أنه هو، مع علمهم بأن ما خاطبهم به لا يصدر إلا عن حنيف مسلم من نسل إبراهيم عليه السلام، لا عن بعض أعزاء مصر‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ أئنك على الاستفهام، والخلاف في تحقيق الهمزتين، أو تليين الثانية وإدخال ألف في التلين، أو التحقيق مذكور في القراآت السبع‏.‏ وقرأ قتادة، وابن محيصن، وابن كثير‏:‏ إنك بغير همزة استفهام، والظاهر أنها مرادة‏.‏ ويبعد حمله على الخبر المحض، وقد قاله بعضهم لتعارض الاستفهام والخبر إن اتحد القائلون في القول وهو الظاهر، فإن قدر أنّ بعضاً استفهم وبعضاً أخبر، ونسب في كل من القراءتين إلى المجموع قول بعضهم‏:‏ أمكن، وهو مع ذلك بعيد‏.‏ وقرأ أبي‏:‏ أئنك أو أنت يوسف‏.‏ وخرجه ابن جني على حذف خبر إن وقدره‏:‏ أئنك لأنت يوسف، أو أنت يوسف‏.‏ وقدره الزمخشري‏:‏ أئنك يوسف، أو أنت يوسف، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه قال‏:‏ وهذا كلام مستعجب مستغرب لما يسمع، فهو يكرر الاستثبات انتهى‏.‏ وحكى أبو عمرو الداني في قراءة أبي بن كعب قالوا‏:‏ أو أنت يوسف‏؟‏ وفي قراءة الجمهور‏:‏ أئنك لأنت، يجوز أن تكون اللام دخلت على أنت، وهو فصل‏:‏ وخبر إنّ يوسف كما تقول‏:‏ إنْ كان زيد لهو الفاضل‏.‏

ويجوز أن تكون دخلت على أنت وهو مبتدأ، ويوسف خبره، والجملة في موضع خبر إن، ولا يجوز أن يكون أنت توكيداً للضمير الذي هو اسم إن لحيلولة اللام بينهما‏.‏ ولما استفهموه أجابهم فقال‏:‏ أنا يوسف كاشفاً لهم أمره، وزادهم في الجواب قوله‏:‏ وهذا أخي، لأنه سبق قوله‏:‏ هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه‏؟‏ وكان في ذكر أخيه بيان لما سألوا عنه، وإن كان معلوماً عندهم وتوطئة لما ذكر بعد من قوله‏:‏ قد منَّ الله علينا أي‏:‏ بالاجتماع بعد الفرقة والأنس بعد الوحشة‏.‏ ثم ذكر أنّ سبب منِّ الله عليه هو بالتقوى والصبر، والأحسن أن لا تخص التقوى بحالة ولا الصبر‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ من يتقي في تركه المعصية ويصبر في السجن‏.‏ وقال النخعي‏:‏ من يتقي الزنا ويصبر على العزوبة‏.‏ وقيل‏:‏ ومن يتق الله ويصبر على المصائب‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ من يتق، من يخف الله‏.‏ وعقابه، ويصبر عن المعاصي، وعلى الطاعات‏.‏ وقيل‏:‏ من يتقي معاصي الله، ويصبر على أذى الناس، وهذه كلها تخصيصات بحسب حالة يوسف ونوازله‏.‏

وقرأ قنبل‏:‏ من يتقي، فقيل‏:‏ هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة، وهذه الياء إشباع‏.‏ وقيل‏:‏ جزمه بحذف الحركة على لغة من يقول‏:‏ لم يرمي زيد، وقد حكوا ذلك لغة‏.‏ وقيل‏:‏ هو مرفوع، ومن موصول بمعنى الذي، وعطف عليه مجزوم وهو‏:‏ ويصبر، وذلك على التوهم‏.‏ كأنه توهم أن من شرطية، ويتقي مجزوم‏.‏ وقيل‏:‏ ويصبر مرفوع عطفاً على مرفوع، وسكنت الراء لا للجزم، بل لتوالي الحركات، وإن كان ذلك من كلمتين، كما سكنت في يأمركم، ويشعركم، وبعولتهن، أو مسكناً للوقف، وأجرى الوصل مجرى الوقف‏.‏ والأحسن من هذه الأقوال أن يكون يتقي مجزوماً على لغة، وإن كانت قليلة، ولا يرجع إلى قول أبي علي قال‏:‏ وهذا مما لا يحمل عليه، لأنه إنما يجيء في الشعر لا في الكلام، لأن غيره من رؤساء النحويين قد نقلوا أنه لغة‏.‏

والمحسنين‏:‏ عام يندرج فيه من تقدم، أو وضع موضع الضمير لاشتماله على المتقين والصابرين كأنه قيل‏:‏ لا يضيع أجرهم‏.‏ وآثرك‏:‏ فضلك بالملك، أو بالصبر، والعلم قالهما ابن عباس، أو بالحلم والصفح ذكره أبو سليمان الدمشقي، أو بحسن الخلق والخلق، والعلم، والحلم، والإحسان، والملك، والسلطان، وبصبرك على أذاناً قاله‏:‏ صاحب الغنيان‏.‏ أو بالتقوى، والصبر وسيرة المحسنين قاله‏:‏ الزمخشري، وهو مناسب لقوله‏:‏ ‏{‏إنه من يتق‏}‏ الآية وخطابهم إياه بذلك استنزال لإحسانه، واعتراف بما صدر منهم في حقه‏.‏ وخاطئين‏:‏ من خطئ إذا تعمد‏.‏ وأما أخطأ فقصد الصواب ولم يوفق له‏.‏ ولا تثريب‏:‏ لا لوم ولا عقوبة‏.‏ وتثريب اسم لا، وعليكم الخبر، واليوم منصوب بالعامل في الخبر أي‏:‏ لا تثريب مستقر عليكم اليوم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ بم تعلق اليوم‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ بالتثريب، أو بالمقدر في عليكم من معنى الاستقرار، أو بيغفر‏.‏

والمعنى‏:‏ لا أثربكم اليوم، وهذا اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بغيره من الأيام‏!‏ ثم ابتدأ فقال‏:‏ يغفر الله لكم، فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم‏.‏ يقال‏:‏ غفر الله لك، ويغفر الله لك على لفظ الماضي والمضارع جميعاً، ومنه قول المشمت‏:‏ يهديكم الله ويصلح بالكم‏.‏ أو اليوم يغفر الله لكم بشارة بعاجل الغفران، لما تجدد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم انتهى‏.‏ أما قوله‏:‏ إن اليوم يتعلق بالتثريب، فهذا لا يجوز، لأنّ التثريب مصدر، وقد فصل بينه وبين معموله بقوله‏:‏ وعليكم‏.‏ إما أن يكون خبراً، أو صفة لتثريب، ولا يجوز الفصل بينهما، لأنّ معمول المصدر من تمامه‏.‏ وأيضاً لو كان اليوم متعلقاً بتثريب لم يجز بناؤه، وكان يكون من قبيل المشبه بالمضاف، وهو الذي يسمى المطول، ويسمى الممطول، فكان يكون معرباً منوناً‏.‏ وأما تقديره الثاني فتقدير حسن، ولذلك وقف على قوله اليوم أكثر القراء‏.‏ وابتدأوا بيغفر الله لكم على جهة الدعاء، وهو تأويل ابن إسحاق والطبري‏.‏ وأما تقديره الثالث وهو أن يكون اليوم متعلقاً بيغفر فمقول، وقد وقف بعض القراء على عليكم، وابتدأ اليوم يغفر الله لكم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والوقف على اليوم أرجح في المعنى، لأنّ الآخر فيه حكم على مغفرة الله، اللهم إلا أن يكون ذلك بوحي‏.‏ وأما قوله‏:‏ فبشارة إلى آخره، فعلى طريقة المعتزلة، فإنّ الغفران لا يكون إلا لمن تاب‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ إنما أشار إلى ذلك اليوم لأنه أول أوقات العفو، وسبيل العافي في مثله أن لا يراجع عقوبة‏.‏ وأجاز الحوفي أن يكون عليكم في موضع الضفة لتثريب، ويكون الخبر اليوم، وهو وجه حسن‏.‏ وقيل‏:‏ عليكم بيان كلك في قولهم‏:‏ سقياً لك، فيتعلق بمحذوف‏.‏ ونصوا على أنه لا يجوز أن يتعلق عليكم بتثريب، لأنه كان يعرب، فيكون منوناً لأنه يصير من باب المشبه بالمضاف‏.‏ ولو قيل‏:‏ إن الخبر محذوف، وعليكم متعلق بمحذوف يدل عليه تثريب، وذلك المحذوف هو العامل في اليوم وتقديره‏:‏ لا تثريب عليكم اليوم، كما قدروا في ‏{‏لا عاصم اليوم من أمر الله‏}‏ أي‏:‏ يعصم اليوم، لكان وجهاً قوياً، لأنّ خبر لا إذا علم كثر حذفه عند أهل الحجاز، ولم يلفظ به بنو تميم‏.‏ ولما دعا لهم بالمغفرة أخبر عن الله بالصفة التي هي سبب الغفران، وهو أنه تعالى أرحم الرحماء، فهو يرجو منه قبول دعائه لهم بالمغفرة‏.‏

والباء في بقميصي الظاهر أنها للحال أي‏:‏ مصحوبين أو ملتبسين به‏.‏ وقيل‏:‏ للتعدية أي‏:‏ اذهبوا بقميصي، أي احملوا قميصي‏.‏ قيل‏:‏ هو القميص الذي توارثه يوسف وكان في عنقه، وكان من الجنة، أمره جبريل عليه السلام أنْ يرسله إليه فإن فيه ريح الجنة، لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي‏.‏

وقيل‏:‏ كان لابراهيم كساه الله إياه من الجنة حين خرج من النار، ثم لإسحاق، ثم ليعقوب، ثم ليوسف‏.‏ وقيل‏:‏ هو القميص الذي قدّ من دبر، أرسله ليعلم يعقوب أنه عصم من الفاحشة‏.‏ والظاهر أنه قميص من ملبوس يوسف بمنزلة قميص كل واحد، قال ذلك‏:‏ ابن عطية‏.‏ وهكذا تتبين الغرابة في أنْ وجد يعقوب ريحه من بعد، ولو كان من قمص الجنة ما كان في ذلك غرابة ولوجده كل أحد‏.‏ وقوله‏:‏ فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً، يدل على أنه علم أنه عمى من الحزن، إما بإعلامهم، وإما بوحي‏.‏ وقوله‏:‏ يأت بصيراً، يظهر أنه بوحي‏.‏ وأهلوه الذين أمر بأن يؤتي بهم سبعون، أو ثمانون، أو ثلاثة وتسعون، أو ستة وتسعون، أقوال أولها للكلبي وثالثها المسروق‏.‏ وفي واحد من هذا العدد حلوا بمصر ونموا حتى خرج من ذريتهم مع موسى عليه السلام ستمائة ألف‏.‏ ومعنى‏:‏ يأت، يأتيني، وانتصب بصيراً على الحال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 98‏]‏

‏{‏وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ‏(‏94‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ‏(‏95‏)‏ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏96‏)‏ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ‏(‏97‏)‏ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏98‏)‏‏}‏

الفند‏:‏ الفساد، قال‏:‏

ألا سليمان إذ قال الإله له *** قم في البرية فاحددها عن الفند

وفندت الرجل أفسدت رأيه ورددته قال‏:‏

يا عاذليّ دعا لومي وتفيدي *** فليس ما قلت من أمر بمردود

وأفند الدهر فلاناً أفسده‏.‏ قال ابن مقبل‏:‏

دع الدهر يفعل ما أراد فإنه *** إذا كلف الإفناد بالناس أفندا

القديم‏:‏ الذي مرت عليه أعصار، وهو أمر نسبي‏.‏ البدو البادية وهي خلاف الحاضرة‏.‏

‏{‏ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون‏.‏ قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم‏.‏ فلما أن جآء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيراً قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون‏.‏ قالوا يأبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين‏.‏ قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم‏}‏‏:‏ فصل من البلد يفصل فصولاً انفصل منه وجاوز حيطانه، وهو لازم‏.‏ وفصل الشيء فصلاً فرق، وهو متعد‏.‏ ومعنى فصلت العير‏:‏ انفصلت من عريش مصر قاصدة مكان يعقوب، وكان قريباً من بيت المقدس‏.‏ وقيل‏:‏ بالجزيرة، وبيت المقدس هو الصحيح، لأنّ آثارهم وقبورهم هناك إلى الآن‏.‏ وقرأ ابن عباس‏:‏ ولما انفصل العير، قال ابن عباس‏:‏ وجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام، هاجت ريح فحملت عرفه‏.‏ وقال الحسن وابن جريج‏:‏ من ثمانين فرسخاً، وكان مدة فراقه منه سبعاً وسبعين سنة‏.‏ وعن الحسن أيضاً‏:‏ وجده من مسيرة ثلاثين يوماً، وعنه‏:‏ مسيرة عشر ليال‏.‏ وعن أبي أيوب المهروي‏:‏ أن الريح استأذنت في إيصال عرف يوسف إلى يعقوب، فأذن لها في ذلك‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ صفقت الريح القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا، واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص‏.‏ ومعنى لأجد‏:‏ لأشم فهو وجود حاسة الشم‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

وإني لأستشفي بكل غمامة *** يهب بها من نحو أرضك ريح

ومعنى تفندون قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة‏:‏ تسفهون‏.‏ وعن ابن عباس أيضاً‏:‏ تجهلون، وعنه أيضاً‏:‏ تضعفون‏.‏ وقال عطاء وابن جبير‏:‏ تكذبون‏.‏ وقال الحسن‏:‏ تهرمون‏.‏ وقال ابن زيد، والضحاك ومجاهد أيضاً‏:‏ تقولون ذهب عقلك وخرفت‏.‏ وقال أبو عمرو‏:‏ تقبحون‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ تعجزون‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ تضللون‏.‏ وقيل‏:‏ تخطئون‏.‏ وهذه كلها متقاربة في المعنى، وهي راجعة لاعتقاد فساد رأي المفند إما لجهله، أو لهوى غالب عليه، أو لكذبه، أو لضعفه وعجزه لذهاب عقله بهرمه‏.‏ وقال منذر بن سعيد البلوطي‏:‏ يقال شج مفند أي‏:‏ قد فسر رأيه، ولا يقال‏:‏ عجوز مفندة، لأن المرأة لم يكن لها رأي قط أصيل فيدخله التفنيد‏.‏ وقال معناه الزمخشري قال‏:‏ التفنيد النسبة إلى الفند وهو الخوف وإنكارالعقل، من هرم يقال‏:‏ شيخ مفند، ولا يقال عجوز مفندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فنفند في كبرها، ولولا هنا حرف امتناع لوجود، وجوابها محذوف‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ المعنى لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني انتهى‏.‏ وقد يقال‏:‏ تقديره لولا أن تفندوني لأخبرتكم بكونه حياً لم يمت، لأن وجداني ريحه دال على حياته‏.‏ والمخاطب بقوله‏:‏ تفندون، الظاهر من تناسق الضمائر أنه عائد على من كان بقي عنده من أولاده غير الذين راحوا يمتارون، إذ كان أولاده جماعة‏.‏ وقيل‏:‏ المخاطب ولد ولده ومن كان بحضرته من قرابته‏.‏ والضلال هنا لا يراد به ضد الهدى والرّشاد، قال ابن عباس‏:‏ المعنى إنك لفي خطئك، وكان حزن يعقوب قد تجدد بقصة بنيامين، ولذلك يقال له‏:‏ ذو الحزنين‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ الشقاء والعناء‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ الجنون، ويعني والله أعلم غلبة المحبة‏.‏ وقيل‏:‏ الهلاك والذهاب من قولهم‏:‏ ضل الماء في اللبن أي‏:‏ ذهب فيه‏.‏ وقيل‏:‏ الحب، ويطلق الضلال على المحبة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ذلك من الجفاء الذي لا يسوغ لهم مواجهته به، وقد تأوله بعض الناس على ذلك، ولهذا قال قتادة‏:‏ قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم، ولا لنبي الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ لفي ذهابك عن الصواب قدماً في إفراط محبتك ليوسف، ولهجك بذكره، ورجاءك لقاءه، وكان عندهم أنه قد مات‏.‏ روي عن ابن عباس أنّ البشير كان يهوذا، لأنه كان جاء بقميص الدم‏.‏ وقال أبو الفضل الجوهري‏:‏ قال يهوذا لإخوته‏:‏ قد علمتم أني ذهبت إليه بقميص القرحة، فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة فتركوه، وقال هذا المعنى‏:‏ السدي‏.‏ وأن تطرد زيادتها بعد لما، والضمير المستكن في ألقاه عائد على البشير، وهو الظاهر، هو لقوله‏:‏ فألقوه‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على يعقوب، والظاهر أنه أريد الوجه كله كما جرت العادة أنه متى وجد الإنسان شيئاً يعتقد فيه البركة مسح به وجهه‏.‏ وقيل‏:‏ عبر بالوجه عن العينين لأنهما فيه‏.‏ وقيل‏:‏ عبر بالكل عن البعض‏.‏ وارتدَّ عدّه بعضهم في أخوات كان، والصحيح أنها ليست من أخواتها، فانتصب بصيراً على الحال والمعني‏:‏ أنه رجع إلى حالته الأولى من سلامة البصر‏.‏ ففي الكلام ما يشعر أنّ بصره عاد أقوى مما كان عليه وأحسن، لأنّ فعيلاً من صيغ المبالغة، وما عدل من مفعل إلى فعيل إلا لهذا المعنى انتهى‏.‏ وليس كذلك لأنّ فعيلاً هنا ليس للمبالغة، إذ فعيل الذي للمبالغة هو معدول عن فاعل لهذا المعنى‏.‏ وأما بصيراً هنا فهو اسم فاعل من بصر بالشيء، فهو جار على قياسٍ فعل نحو ظرف فهو ظريف، ولو كان كما زعم بمعنى مبصر لم يكن للمبالغة أيضاً، لأنّ فعيلاً بمعنى ليس للمبالغة نحو‏:‏ أليم وسميع بمعنى مؤلم ومسمع‏.‏

وروي أن يعقوب سأل البشير كيف يوسف‏؟‏ قال‏:‏ ملك مصر‏.‏ قال‏:‏ ما أصنع بالملك‏؟‏ قال‏:‏ على أي دين تركته‏؟‏ قال‏:‏ على الإسلام، قال‏:‏ الآن تمت النعمة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لم يجد البشير عند يعقوب شيئاً يبيته به وقال‏:‏ ما خبرنا شيئاً منذ سبع ليال، ولكن هون الله عليك سكرات الموت‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ رجع إليه بصره بعد العمى، والقوة بعد الضعف، والشباب بعد الهرم، والسرور بعد الكرب‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ إني أعلم، محكي بالقول ويريد به إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون‏.‏ فقيل‏:‏ ما لا تعلمون من حياة يوسف، وأن الله يجمع بيننا وبينه‏.‏ وقيل‏:‏ من صحة رؤيا يوسف عليه السلام، وقيل‏:‏ من بلوى الأنبياء بالحزن، ونزول الفرج، وقيل‏:‏ من إخبار ملك الموت إياي، وكان أخبره أنه لم يقبض روحه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ما لا تعلمون هو انتظاره لتأويل الرؤيا، ويحتمل أن يشير إلى حسن ظنه بالله فقط‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ألم أقل لكم يعني قوله‏:‏ إني لأجد ريح يوسف، أو قوله‏:‏ ولا تيأسوا من روح الله‏.‏ وقوله إني أعلم، كلام مبتدأ لم يقع عليه القول انتهى‏.‏ وهو خلاف الظاهر الذي قدمناه‏.‏ ولما رجع إليه بصره وقرت عينه بالمسير إلى ابنه يوسف، وقررهم على قوله‏:‏ ألم أقل لكم‏؟‏ طلبوا منه أن يستغفر لهم الله لذنوبهم، واعترفوا بالخطأ السابق منهم، وسوف أستغفر لكم‏:‏ عدة لهم بالاستغفار بسوف، وهي أبلغ في التنفيس من السين‏.‏ فعن ابن مسعود‏:‏ أنه أخر الاستغفار لهم إلى السحر‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ إلى ليلة الجمعة، وعنه‏:‏ إلى سحرها‏.‏ قال السدي، ومقاتل، والزجاج‏:‏ أخر لإجابة الدعاء، لا ضنة عليهم بالاستغفار‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ سوف إلى قيام الليل‏.‏ وقال ابن جبير وفرقة‏:‏ إلى الليالي البيض، فإن الدعاء فيها يستجاب‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ أخره حتى يسأل يوسف، فإن عفا عنهم استغفر لهم‏.‏ وقيل‏:‏ أخرهم ليعلم حالهم في صدق التوبة وإخلاصها‏.‏ وقيل‏:‏ أراد الدوام على الاستغفار لهم‏.‏ ولما وعدهم بالاستغفار رجاهم بحصول الغفران بقوله‏:‏ إنه هو الغفور الرحيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 101‏]‏

‏{‏فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ ‏(‏99‏)‏ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏100‏)‏ رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

البدو البادية وهي خلاف الحاضرة‏.‏

‏{‏فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين‏.‏ ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم‏.‏ رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين‏}‏‏:‏ في الكلام حذف تقديره‏:‏ فرحل يعقوب بأهله أجمعين، وساروا حتى تلقوا يوسف‏.‏ قيل‏:‏ وجهز يوسف إلى أبيه جهازاً، ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه، وخرج يوسف قيل‏:‏ والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم، فتلقوا يعقوب عليه السلام وهو يمشي يتوكأ على يهوذ، فنظر إلى الخيل والناس فقال‏:‏ يا يهوذا أهذا فرعون مصر‏؟‏ فقال‏:‏ لا، هذا ولدك‏.‏ فلما لقيه يعقوب عليه السلام قال‏:‏ السلام عليك يا مذهب الأحزان‏.‏ وقيل‏:‏ إن يوسف قال له لما التقيا‏:‏ يا أبت، بكيت عليّ حتى ذهب بصرك، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا‏؟‏ قال‏:‏ بلى، ولكن خشيت أن تسلب دينك، فيحال بيني وبينك‏.‏ آوي إليه أبويه أي‏:‏ ضمهما إليه وعانقهما، والظاهر أنهما أبوه وأمه راحيل‏.‏ فقال الحسن وابن إسحاق‏:‏ كانت أمه بالحياة‏.‏ وقيل‏:‏ كانت ماتت من نفاس بنيامين، وأحياها له ليصدق رؤياه في قوله‏:‏ ‏{‏والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين‏}‏ حكي هذا عن الحسن وابن إسحاق أيضاً‏.‏ وقيل‏:‏ أبوه وخالته، وكان يعقوب تزوجها بعد موت راحيل، والخالة أم‏.‏ روي عن ابن عباس، وكانت ربت يوسف، والرابة تدعى أمّاً‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ أبوه وجدته أم أمه، حكاه الزهراوي‏.‏ وفي مصحف عبد الله آوى إليه أبويه وإخوته‏.‏ وظاهر قوله‏:‏ ادخلوا مصر، إنه أمر بإنشاء دخول مصر‏.‏ قال السدي‏:‏ قال لهم ذلك وهم في الطريق حين تلقاهم انتهى‏.‏ فيبقى قوله‏:‏ فلما دخلوا على يوسف كأنه ضرب له مضرب، أو بيت حالة التلقي في الطريق فدخلوا عليه فيه‏.‏ وقيل‏:‏ دخلوا عليه في مصر‏.‏ ومعنى ادخلوا مصر أي‏:‏ تمكنوا منها واستقروا فيها‏.‏ والظاهر تعلق الدخول على مشيئة الله لما أمرهم بالدخول، علق ذلك على مشيئة الله لأن جميع الكائنات إنما تكون بمشيئة الله، وما لا يشاء لا يكون‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ التقدير ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين، إن شاء الله دخلتم آمنين، ثم حذف الجزاء لدلالة الكلام، ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذي الحال‏.‏ ومن بدع التفاسير أن قوله‏:‏ إن شاء الله من باب التقديم والتأخير، وأن موضعه بعد قوله‏:‏ سوف أستغفر لكم ربي في كلام يعقوب انتهى‏.‏

وهذا البدع من التفسير مروي عن ابن جريج، وهو في غاية البعد، بل في غاية الامتناع‏.‏

والعرش سرير الملك‏.‏ ولما دخل يوسف مصر وجلس في مجلسه على سريره، واجتمعوا إليه، أكرم أبويه فرفعهما معه على السرير‏.‏ ويحتمل أن يكون الرفع والخرور قبل دخول مصر بعد قوله‏:‏ ادخلوا مصر، فكان يكون في قبة من قباب الملوك التي تحمل على البغال أو الإبل، فحين دخلوا إليه آوى إليه أبويه وقال‏:‏ ادخلوا مصر، ورفع أبويه‏.‏ وخروا له، والضمير في وخروا عائد على أبويه وعلى إخوته‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في وخروا عائد على إخوته وسائر من كان يدخل عليه لأجل هيبته، ولم يدخل في الضمير أبواه، بل رفعهما على سرير ملكة تعظيماً لهما‏.‏ وظاهر قوله‏:‏ وخروا له سجداً أنه السجود المعهود، وأن الضمير في له عائد على يوسف لمطابقة الرؤيا في قوله‏:‏ ‏{‏إني رأيت أحد عشر كوكباً‏}‏ الآية وكان السجود إذ ذاك جائزاً من باب التكريم بالمصافحة، وتقبيل اليد، والقيام مما شهر بين الناس في باب التعظيم والتوقير‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كانت تحية الملوك عندهم، وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة‏.‏ وقيل‏:‏ هذا السجود كان إيماء بالرأس فقط‏.‏ وقيل‏:‏ كان كالركوع البالغ دون وضع الجبهة على الأرض‏.‏ ولفظة وخروا تأبى هذين التفسرين‏.‏ قال الحسن‏:‏ الضمير في له عائد على الله أي‏:‏ خرُّوا لله سجداً شكراً على ما أوزعهم من هذه النعمة، وقد تأول قوله‏:‏ رأيتهم لي ساجدين، على أن معناه رأيتهم لأجلي ساجدين‏.‏ وإذا كان الضمير ليوسف فقال المفسرون‏:‏ كان السجود تحية لا عبادة‏.‏ وقال أبو عبد الله الداراني‏:‏ لا يكون السجود إلا لله لا ليوسف، ويبعد من عقله ودينه أن يرضي بأن يسجد له أبوه مع سابقته من صون أولاده، والشيخوخة، والعلم، والدين، وكمال النبوة‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير وإن عاد على يوسف فالسجود كان لله تعالى، وجعلوا يوسف قبلة كما تقول‏:‏ صليت للكعبة، وصليت إلى الكعبة، وقال حسان‏:‏

ما كنت أعرف أن الدهر منصرف *** عن هاشم ثم عنها عن أبي حسن

أليس أول من صلى لقبلتكم *** وأعرف الناس بالأشياء والسنن

وقيل‏:‏ السجود هنا التواضع، والخرور بمعنى المرور لا السقوط على الأرض لقوله‏:‏ ‏{‏والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً‏}‏ أي لم يمروا عليها‏.‏ وقال ثابت‏:‏ هذا تأويل رؤياي من قبل أي‏:‏ سجودكم هذا تأويل، أي‏:‏ عاقبة رؤياي أنّ تلك الكواكب والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين‏:‏ ومن قبل متعلق برؤياي، والمحذوف في من قبل تقديره‏:‏ من قبل هذه الكوائن والحوادث التي جرت بعد رؤياي‏.‏ ومن تأول أنّ أبويه لم يسجدا له زعم أن تعبير الرؤيا لا يلزم أن يكون مطابقاً للرؤيا من كل الوجوه، فسجود الكواكب والشمس والقمر يعبر بتعظيم الأكابر من الناس‏.‏

ولا شك أن ذهاب يعقوب عليه السلام مع ولده من كنعان إلى مصر لأجل يوسف نهاية في التعظيم له، فكفى هذا القدر في صحة الرؤيا وعن ابن عباس‏:‏ أنه لما رأى سجود أبويه وإخوته هاله ذلك واقشعر جلده منه‏.‏ وقال ليعقوب‏:‏ هذا تأويل رؤياي من قبل، ثم ابتدأ يوسف عليه السلام بتعديد نعم الله عليه فقال‏:‏ قد جعلها ربي حقاً أي‏:‏ صادقة، رأيت ما يقع في المنام يقظة، لا باطل فيها ولا لغو‏.‏ وفي المدة التي كانت بين رؤياه وسجودهم خلاف متناقض‏.‏ قيل‏:‏ ثمانون سنة، وقيل‏:‏ ثمانية عشر عاماً‏.‏ وقيل‏:‏ غير ذلك من رتب العدد‏.‏ وكذا المدة التي أقام يعقوب فيها بمصر عند ابنه يوسف خلاف متناقض، وأحسن أصله أن يتعدى بإلى قال‏:‏ ‏{‏وأحسن كما أحسن الله إليك‏}‏ وقد يتعدى بالباء قال تعالى‏:‏ ‏{‏وبالوالدين إحساناً‏}‏ كما يقال أساء إليه، وبه قال الشاعر‏:‏

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة *** لدينا ولا مقلية إن تقلت

وقد يكون ضمن أحسن معنى لطف، فعداه بالباء، وذكر إخراجه من السجن وعدل عن إخراجه من الجب صفحاً عن ذكر ما تعلق بقول إخوته، وتناسياً لما جرى منهم إذ قال‏:‏ ‏{‏لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم‏}‏ وتنبيهاً على طهارة نفسه، وبراءتها مما نسب إليه من المراودة‏.‏ وعلى ما تنقل إليه من الرياسة في الدنيا بعد خروجه من السجن بخلاف ما تنقل إليه بالخروج من الجب، إلى أن بيع مع العبيد، وجاء بكم من البدو من البادية‏.‏ وكان ينزل يعقوب عليه السلام بأطراف الشام ببادية فلسطين، وكان رب إبل وغنم وبادية‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ كانوا أهل عمد وأصحاب مواش يتنقلون في المياه والمناجع‏.‏ قيل‏:‏ كان تحول إلى بادية وسكنها، فإنّ الله لم يبعث نبياً من أهل البادية‏.‏ وقيل‏:‏ كان خرج إلى بدا وهو موضع وإياه عني جميل بقوله‏:‏

وأنت التي جببت شعباً إلى بدا *** إليّ وأوطاني بلاد سواهما

وليعقوب عليه السلام بهذا الموضع مسجد تحت جبل‏.‏ يقال‏:‏ بداً القوم بدوا، إذا أتوا بدا كما يقال‏:‏ غاروا غوراً‏.‏ إذ أتوا الغور‏.‏ والمعنى‏:‏ وجاء بكم من مكان بدا، ذكره القشيري، وحكاه الماوردي عن الضحاك، وعن ابن عباس‏.‏ وقابل يوسف عليه السلام نعمة إخراجه من السجن بمجيئهم من البدو، والإشارة بذلك إلى الاجتماع بابيه وإخوته، وزوال حزن أبيه‏.‏ ففي الحديث‏:‏ «من يرد الله به خيراً ينقله من البادية إلى الحاضرة» من بعد أن نزغ أي أفسد، وتقدم الكلام على نزع، وأسند النزغ إلى الشيطان لأنه الموسوس كما قال‏:‏ ‏{‏فأزلهما الشيطان عنها‏}‏ وذكر هذا القدر من أمر إخوته، لأنّ النعمة إذا جاءت إثر شدة وبلاء كانت أحسن موقعاً‏.‏ إن ربي لطيف، أي‏:‏ لطيف التدبير لما يشاء من الأمور، رفيق‏.‏

ومن في قوله من الملك، وفي من تأويل للتبعيض، لأنه لم يؤته إلا بعض ملك الدنيا، ولا علمه إلا بعض التأويل‏.‏ ويبعد قول من جعل من زائدة، أو جعلها البيان الجنس، والظاهر أن الملك هنا ملك مصر‏.‏ وقيل‏:‏ ملك نفسه من إنفاذ شهوته‏.‏ وقال عطاء‏:‏ ملك حساده بالطاعة، ونيل الأماني من الملك‏.‏ وقرأ عبد الله، وعمرو بن ذر‏:‏ آتيتن، وعلمتن بحذف الياء منهما اكتفاء بالكسرة عنهما، مع كونهما ثابتتين خطاً‏.‏ وحكى ابن عطية عن ابن ذرانة‏:‏ قرأ رب آتيتني بغير قد، وانتصب فاطر على الصفة، أو على النداء‏.‏ وأنت وليي تتولاني بالنعمة في الدارين، وتوصل الملك الفاني بالملك الباقي‏.‏ وذكر كثير من المفسرين أنه لما عد نعم الله عنده تشوق إلى لقاء ربه ولحاقه بصالحي سلفه، ورأى أنّ الدنيا كلها فانية فتمنى الموت‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لم يتمن الموت حي غير يوسف، والذي يظهر أنه ليس في الآية تمنى الموت، وإنما عدد نعمه عليه، ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي أمره أي‏:‏ توفني إذا حان أجلي على الإسلام، واجعل لحاقي بالصالحين‏.‏ وإنما تمنى الوفاة على الإسلام لا الموت، والصالحين أهل الجنة أو الأنبياء، أو آباؤه إبراهيم وإسحاق ويعقوب‏.‏ وعلماء التاريخ يزعمون أنّ يوسف عليه السلام عاش مائة عام وسبعة أعوام، وله من الولد‏:‏ افراثيم، ومنشا، ورحمة زوجة أيوب عليه السلام‏.‏ قال الذهبي‏:‏ وولد لافراثيم نون، ولنون يوشع، وهو فتى موسى عليه السلام‏.‏ وولد لمنشأ موسى، وهو قبل موسى بن عمران عليه السلام‏.‏ ويزعم أهل التوراة أنه صاحب الخضر، وكان ابن عباس ينكر ذلك‏.‏ وثبت في الصحيح أن صاحب الخضر هو موسى بن عمران، وتوارثت الفراعنة ملك مصر، ولم تزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف عليه السلام إلى أن بعث موسى عليه السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 107‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ‏(‏102‏)‏ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏104‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ‏(‏105‏)‏ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ‏(‏106‏)‏ أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

قال ابن الأنباري‏:‏ سألت قريش واليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فنزلت مشروحة شرحاً وافياً، وأمل أن يكون ذلك سبباً لإسلامهم، فخالفوا تأميله، فعزاه الله تعالى بقوله‏:‏ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين الآيات‏.‏ وقيل‏:‏ في المنافقين، وقيل‏:‏ الثنوبة، وقيل‏:‏ في النصارى‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ في تلبية المشركين‏.‏ وقيل‏:‏ في أهل الكتاب آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فجمعوا بين الإيمان والشرك‏.‏ والإشارة بذلك إلى ما قصه الله من قصة يوسف وإخوته‏.‏ وما كنت لديهم أي‏:‏ عند بني يعقوب حين أجمعوا أمرهم على أن يجعلوه في الجب، ولا حين ألقوه فيه، ولا حين التقطته السيارة، ولا حين بيع‏.‏ وهم يمكرون أي يبغون الغوائل ليوسف، ويتشاورون فيما يفعلون به‏.‏ أو يمكرون بيعقوب حين أتوا بالقميص ملطخاً بالدم، وفي هذا تصريح لقريش بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا النوع من علم البيان يسمى بالاحتجاج النظري، وبعضهم يسميه المذهب الكلامي، وهو أن يلزم الخصم ما هو لازم لهذا الاحتجاج، وتقدم نظير ذلك في آل عمران، وفي هود‏.‏ وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه، لأنه لا يخفى على أحد أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه، ولا لقي فيها أحداً ولا سمع منه، ولم يكن من علم قومه، فإذا أخبر به وقصه هذا القصص الذي أعجز حملته ورواته لم تقع شبهة في أنه ليس منه، وإنما هو من جهة القرون الخالية ونحوه ‏{‏وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر‏}‏ فقوله‏:‏ وما كنت، هنا تهكم بهم، لأنه قد علم كل أحد أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما كان معهم‏.‏ وأجمعوا أمرهم أي‏:‏ عزموا على إلقاء يوسف في الجب، وهم يمكرون جملة حالية‏.‏ والمكر‏:‏ أن يدبر على الإنسان تدبيراً يضره ويؤذيه والناس، الظاهر العموم لقوله‏:‏ ولكن أكثر الناس لا يؤمنون‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ أنهم أهل مكة‏.‏ ولو حرصت‏:‏ ولو بالغت في طلب إيمانهم لا يؤمنون لفرط عنادهم وتصميمهم على الكفر‏.‏ وجواب لو محذوف أي‏:‏ ولو حرصت لم يؤمنوا، إنما يؤمن من يشاء الله إيمانه‏.‏ والضمير في عليه عائد على دين الله أي‏:‏ ما تبتغي عليه أجراً على دين الله، وقيل‏:‏ على القرآن، وقيل‏:‏ على التبليغ، وقيل‏:‏ على الإنباء بمعنى القول‏.‏ وفيه توبيخ للكفرة، وإقامة الحجة عليهم‏.‏ أو وما تسألهم على ما تحدثهم به وتذكرهم أن ينيلوك منفعة وجدوى، كما يعطى حملة الأحاديث والأخبار إن هو إلا موعظة وذكر من الله للعالمين عامة، وحث على طلب النجاة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ا وقرأ بشر بن عبيد‏:‏ وما نسألهم بالنون‏.‏ ثم أخبر تعالى أنهم لفرط كفرهم يمرون على الآيات التي تكون سبباً للإيمان ولا تؤثر فيهم، وأن تلك الآيات هي في العالم العلوي وفي العالم السفلي وتقدم قراءة ابن كثير وكأين‏.‏

قال ابن عطية وهو اسم فاعل من كان فهو كائن ومعناها معنى كم في التكثير انتهى‏.‏ وهذا شيء يروي عن يونس، وهو قول مرجوح في النحو‏.‏ والمشهور عندهم أنه مركب من كاف التشبيه ومن أي، وتلاعبت العرب به فجاءت به لغات‏.‏ وذكر صاحب اللوامح أن الحسن قرأ وكي بياء مكسورة من غير همز ولا ألف ولا تشديد، وجاء كذلك عن ابن محيصن، فهي لغة انتهى‏.‏ من آية علامة على توحيد الله وصفاته، وصدق ما جيء به عنه‏.‏ وقرأ عكرمة وعمرو بن قائد‏:‏ والأرض بالرفع على الابتداء، وما بعده خبر‏.‏ ومعنى يمرون عليها فيشاهدون ما فيها من الآيات‏.‏ وقرأ السدي‏:‏ والأرض بالنصب، وهو من باب الاشتغال أي‏:‏ ويطوون الأرض يمرون عليها على آياتها، وما أودع فيها من الدلالات‏.‏ والضمير في عليها وعنها في هاتين القراءتين يعود على الأرض، وفي قراءة الجمهور وهي بجر الأرض، يعود الضمير على آية أي‏:‏ يمرون على تلك الآيات ويشاهدون تلك الدلالات، ومع ذلك لا يعتبرون‏.‏ وقرأ عبد الله‏:‏ والأرض برفع الضاد، ومكان يمرون يمشون، والمراد‏:‏ ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر‏.‏ وهم مشركون جملة حالية أي‏:‏ إيمانهم ملتبس بالشرك‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هم أهل الكتاب، أشركوا بالله من حيث كفروا بنبيه، أو من حيث ما قالوا في عزير والمسيح‏.‏ وقال عكرمة، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد‏:‏ هم كفار العرب أقروا بالخالق الرازق المحيي المميت، وكفروا بعبادة الأوثان والأصنام‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هم الذين يشبهون الله بخلقه‏.‏ وقيل‏:‏ هم أهل مكة قالوا‏:‏ لله ربنا لا شريك له، والملائكة بناته، فأشركوا ولم يوحدوا‏.‏ وعن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والشعبي، وقتادة أيضاً ذلك في تلبيتهم يقولون‏:‏ لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك تملكه وما ملك‏.‏ وفي الحديث كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع أحدهم يقول‏:‏ لبيك لا شريك لك يقول له‏:‏ «قط قط» أي قف هنا ولا تزد إلا شريك هو لك‏.‏ وقيل‏:‏ هم الثنوية قالوا بالنور والظلمة‏.‏ وقال عطاء‏:‏ هذا في الدعاء ينسى الكفار ربهم في الرخاء، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء‏.‏ وقيل‏:‏ هم المنافقون، جهروا بالإيمان وأخفوا الكفر‏.‏ وقيل‏:‏ على بعض اليهود عبدوا عزيراً، والنصارى عبدوا عيسى‏.‏ وقيل‏:‏ قريش لما غشيهم الدخان في سني القحط قالوا‏:‏ إنا مؤمنون، ثم عادوا إلى الشرك بعد كشفه‏.‏ وقيل‏:‏ جميع الخلق مؤمنهم بالرسول وكافرهم، فالكفار تقدم شركهم، والمؤمنون فيهم الشرك الخفي، وأقربهم إلى الكفر المشبهة‏.‏ ولذلك قال ابن عباس‏:‏ آمنوا محملاً، وكفروا مفصلاً‏.‏ وثانيها من يطيع الخلق بمعصية الخالق، وثالثها من يقول‏:‏ نفعني فلان وضرّني فلان‏.‏

أفأمنوا‏:‏ استفهام إنكار فيه توبيخ وتهديد، غاشية نقمة تغشاهم أي، تغطيهم كقوله‏:‏ ‏{‏يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم‏}‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني الصواعق والقوارع انتهى‏.‏ وإتيان الغاشية يعني في الدنيا، وذلك لمقابلته بقوله أو تأتيهم الساعة أي يوم القيامة، بغتة أي‏:‏ فجأة في الزمان من حيث لا يتوقع، وهم لا يشعرون تأكيد لقوله بغتة‏.‏ قال الكرماني‏:‏ لا يشعرون بإتيانها أي‏:‏ وهم غيره مستعدين لها‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ تأخذهم الصيحة على أسواقهم ومواضعهم‏.‏ وقرأ أبو حفص، وبشر بن عبيد‏:‏ أو يأتيهم الساعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 110‏]‏

‏{‏قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏108‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏109‏)‏ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

لما تقدم من قول يوسف عليه السلام‏:‏ ‏{‏توفني مسلماً‏}‏ وكان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين‏}‏ دالاً على أنه حارص على إيمانهم، مجتهد في ذلك، داع إليه، مثابر عليه‏.‏ وذكر ‏{‏وما تسألهم عليه من أجر‏}‏ أشار إلى فيهم من ذلك وهو شريعة الإسلام والإيمان، وتوحيد الله‏.‏ فقال‏:‏ قل يا محمد هذا الطريقة والدعوة طريقي التي سلكتها وأنا عليها، ثم فسر تلك السبيل فقال‏:‏ أدعو إلى الله يعني‏:‏ لا إلى غيره من ملك أو إنسان أو كوكب أو صنم، إنما دعائي إلى الله وحده‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ سبيلي أي دعوتي‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ صلاتي، وقال ابن زيد‏:‏ سنتي، وقال مقاتل والجمهور‏:‏ ديني‏.‏

وقرأ عبد الله‏:‏ قل هذا سبيلي على التذكير‏.‏ والسبيل يذكر ويؤنث، ومفعول أدعو هو محذوف تقديره‏:‏ أدعو الناس‏.‏ والظاهر تعلق على بصيرة بأدعو، وإنا توكيد للضمير المستكن في ادعو، ومن معطوف على ذلك الضمير والمعنى‏:‏ أدعو أنا إليها من اتبعني‏.‏ ويجوز أن يكون على بصيرة خبراً مقدماً، وأنا مبتدأ، ومن معطوف عليه‏.‏ ويجوز أن يكون على بصيرة حالاً من ضمير ادعو، فيتعلق بمحذوف، ويكون أنا فاعلاً بالجار والمجرور النائب عن ذلك المحذوف، ومن اتبعني معطوف على أنا‏.‏ وأجاز أبو البقاء أن يكون‏:‏ ومن اتبعني مبتدأ خبره محذوف تقديره كذلك أي‏:‏ داع إلى الله على بصيرة‏.‏ ومعنى بصيرة حجة واضحة وبرهان متيقن من قوله‏:‏ ‏{‏قد جاءكم بصائر من ربكم‏}‏ وسبحان الله داخل تحت قوله قل‏:‏ أي قل، وتبرئة الله من الشركاء أي‏:‏ براءة الله من أن يكون له شريك‏.‏ ولما أمر بأن يخبر عن نفسه أنه يدعو هو ومن اتبعه إلى الله، وأمر أن يخبر أنه ينزه الله عن الشركاء، أمر أن يخبر أنه في خاصة نفسه منتف عن الشرك، وأنه ليس ممن أشرك‏.‏ وهو نفي عام في الأزمان لم يكن منهم، ولا في وقت من الأوقات‏.‏ إلا رجالاً حصر في الرسل دعاة إلى الله، فلا يكون ملكاً‏.‏ وهذا رد على من قال‏:‏ ‏{‏لو شاء ربنا لأنزل ملائكة‏}‏ وكذلك قال‏:‏ ‏{‏لو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً‏}‏ وقال ابن عباس‏:‏ يعني رجالاً لا نساء، فالرسول لا يكون امرأة، وهل كان في النساء نبية فيه خلاف‏؟‏ والنبي أعم من الرسول، لأنه منطلق على من يأتيه الوحي سواء أرسل أو لم يرسل، قال الشاعر في سجاح المتنبئة‏:‏

أمست نبيتنا أنثى نطيف بها *** ولم تزل أنبياء الله ذكرانا

فلعنة الله والأقوام كلهم *** على سجاح ومن بالإفك أغرانا

أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت *** أصداؤه ماء مزن أينما كانا

وقرأ أبو عبد الرحمن، وطلحة، وحفص‏:‏ نوحي بالنون وكسر الحاء، موافقاً لقوله‏:‏ وما أرسلنا‏.‏

وقرأ الجمهور بالياء وفتح الحاء مبنياً للمفعول‏.‏ والقرى المدن‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ أهل القرى أعلم وأحلم من أهل البادية، فإنهم قليل نبلهم، ولم ينشئ الله قط منهم رسولاً‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لم يبعث الله رسولاً من أهل البادية، ولا من النساء، ولا من الجن‏.‏ والتبدي مكروه إلا في الفتن، ففي الحديث‏:‏ «من بدا جفا» ثم استفهم استفهام توبيخ وتقريع‏.‏ والضمير في يسيروا عائد على من أنكر إرسال الرسل من البشر، ومن عاند الرسول وأنكر رسالته كفر أي‏:‏ هلا يسيرون في الأرض فيعلمون بالتواتر أخبار الرسل السابقة، ويرون مصارع الأمم المكذبة، فيعتبرون بذلك‏؟‏ ولدار الآخرة خير، هذا حض على العمل لدار الآخرة والاستعداد لها، واتقاء المهلكات، ففي هذه الإضافة تخريجان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنها من إضافة الموصوف إلى صفته، وأصله‏:‏ ولدار الآخرة‏.‏ والثاني‏:‏ أن يكون من حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه، وأصله‏:‏ ولدار المدة الآخرة أو النشأة الآخرة‏.‏ والأول‏:‏ تخريج كوفي، والثاني‏:‏ تخريج بصرى‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ أفلا يعقلون بالياء رعياً لقوله‏:‏ أفلم يسيروا‏.‏ وقرأ الحسن، وعلقمة، والأعرج، وعاصم، وابن عامر، ونافع‏:‏ بالتاء على خطاب هذه الأمة تحذيراً لهم مما وقع فيه أولئك، فيصيبهم ما أصابهم‏.‏ قال الكرماني‏:‏ أفلا يعقلون أنها خير‏.‏ فيتوسلوا إليها بالإيمان انتهى‏.‏ والاستيئاس من النصر، أو من إيمان قومهم قولان‏.‏ وحتى غاية لما قبلها، وليس في اللفظ ما يكون له غاية، فاحتيج إلى تقدير فقدره الزمخشري‏:‏ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً، فتراخى نصرهم حتى إذا استيأسوا عن النصر‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويتضمن قوله‏:‏ أفلم يسيروا إلى ما قبلهم، أن الرسل الذين بعثهم الله من أهل القرى دعوهم فلم يؤمنوا بهم حتى نزلت بهم المثلات، فصاروا في حيز من يعتبر بعاقبته، فلهذا المضمن حسن أن يدخل حتى في قوله‏:‏ حتى إذا استيأس الرسل انتهى‏.‏ ولم يتحصل لنا من كلامه شيء يكون ما بعد حتى غاية له، لأنه علق الغاية بما ادعى أنه فهم ذلك من قوله‏:‏ أفلم يسيروا الآية‏.‏ وقال أبو الفرج بن الجوزي‏:‏ المعنى متعلق بالآية الأولى فتقديره‏:‏ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً يدعوا قومهم فكذبوهم، وصبروا وطال دعاؤهم، وتكذيب قومهم حتى إذا استيأس الرسل‏.‏ وقال القرطبي في تفسيره‏:‏ المعنى وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً، ثم لم نعاقب أممهم بالعقاب حتى إذا استيأس الرسل‏.‏ وقرأ أبي، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وطلحة، والأعمش، والكوفيون‏:‏ كذبوا بتخفيف الذال، وباقي السبعة، والحسن وقتادة، ومحمد بن كعب، وأبو رجاء، وابن مليكة، والأعرج، وعائشة بخلاف عنها بتشديدها‏.‏ وهما مبنيان للمفعول، فالضمائر على قراءة التشديد عائدة كلها على الرسل، والمعنى‏:‏ إن الرسل أيقنوا أنهم كذبهم قومهم المشركون‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن كون الظن على بابه يعني من ترجيح أحد الجائزين قال‏:‏ والضمير للرسل، والمكذبون مؤمنون أرسل إليه أي‏:‏ لما طالت المواعيد حسبت الرسل أنّ المؤمنين أولاً قد كذبوهم وارتابوا بقولهم‏.‏

وعلى قراءة التخفيف، فالضمير في وظنوا عائد على الرسل إليهم لتقدمهم في الذكر في قوله‏:‏ كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، ولأنّ الرسل تستدعي مرسلاً إليهم، وفي أنهم‏.‏ وفي قد كذبوا عائد على الرسل، والمعنى‏:‏ وظن المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبهم من ادعوا أنه جاءهم بالوحي عن الله وبنصرهم، إذ لم يؤمنوا به‏.‏ ويجوز في هذه القراءة أن تكون الضمائر الثلاثة عائدة على المرسل إليهم أي‏:‏ وظن المرسل أنهم قد كذبهم الرسل فيما ادعوه من النبوّة، وفيما يوعدون به من لم يؤمن بهم من العذاب‏.‏ وهذا مشهور قول ابن عباس، وتأويل عبد الله وابن جبير ومجاهد‏.‏ ولا يجوز أن تكون الضمائر في هذه القراءة عائدة على الرسل، لأنهم معصومون، فلا يمكن أن يظن أحد منهم أنه قد كذبه من جاءه بالوحي عن الله‏.‏ وقال الزمخشري في هذه القراءة‏:‏ حتى إذا استيأسوا من النصر وظنوا أنهم قد كذبوا أي‏:‏ كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم أنهم ينصرون أو رجاهم كقوله‏:‏ رجاء صادق ورجاء كاذب‏.‏ والمعنى‏:‏ أنّ مدة التكذيب والعداوة من الكفار، وانتظار النصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت، حتى استشعروا القنوط، وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب انتهى‏.‏ فجعل الضمائر كلها للرسل، وجعل الفاعل الذي صرف من قوله‏:‏ قد كذبوا، إما أنفسهم، وإما رجاؤهم‏.‏ وفي قوله‏:‏ إخراج الظن عن معنى الترجيح، وعن معنى اليقين إلى معنى التوهم، حتى تجري الضمائر كلها في القراءتين على سنن واحد‏.‏ وروي عن ابن مسعود، وابن عباس، وابن جبير‏:‏ أن الضمير في وظنوا، وفي قد كذبوا، عائد على الرسل والمعنى‏:‏ كذبهم من تباعدهم عن الله والظن على بابه قالوا‏:‏ والرسل بشر، فضعفوا وساء ظنهم‏.‏ وردت عائشة وجماعة من أهل العلم هذا التأويل، وأعظموا أنْ يوصف الرسل بهذا‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ إن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال، ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية‏.‏ وأما الظن الذي هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل الله الذين هم أعرف بربهم، وأنه متعال عن خلف الميعاد، منزه عن كل قبيح انتهى‏.‏ وآخره مذهب الاعتزال‏.‏ فقال أبو علي‏:‏ إن ذهب ذاهب إلى أنّ المعنى ظن الرسل أن الذي وعد الله أممهم على لسانهم قد كذبوا فيه، فقد أتى عظيماً لا يجوز أن ينسب مثله إلى الأنبياء، ولا إلى صالحي عباد الله قال‏:‏ وكذلك من زعم أن ابن عباس ذهب إلى أن الرسل قد ضعفوا وظنوا أنهم قد أخلفوا، لأن الله لا يخلف الميعاد، ولا مبدل لكلماته‏.‏

وقرأ ابن عباس، ومجاهد، والضحاك‏:‏ قد كذبوا بتخفيف الذال مبنياً للفاعل أي‏:‏ وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما قالوا عن الله من العذاب والظن على بابه‏.‏ وجواب إذ جاءهم نصرنا، والظاهر أن الضمير في جاءهم عائد على الرسل‏.‏ وقيل‏:‏ عائد عليهم وعلى من آمن بهم‏.‏ وقرأ عاصم، وابن عامر‏:‏ فنجى بنون واحدة وشدّ الجيم وفتح الياء مبنياً للمفعول‏.‏ وقرأ مجاهد، والحسن، والجحدري، وطلحة بن هرمز كذلك، إلا أنهم سكنوا الياء، وخرج على أنه مضارع أدغمت فيه النون في الجيم، وهذا ليس بشيء، لأنه لا تدغم النون في الجيم‏.‏ وتخريجه على أنه ماض كالقراءة التي قبلها سكنت الياء فيه لغة من يستثقل الحركة صلة على الياء، كقراءة من قرأ ‏{‏ما تطعمون أهليكم‏}‏ بسكون الياء‏.‏ ورويت هذه القراءة عن الكسائي ونافع، وقرأهما في المشهور، وباقي السبعة فننجي بنونين مضارع أنجي‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ كذلك إلا أنهم فتحوا الياء‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ رواها هبيرة عن حفص عن عاصم، وهي غلط من هبيرة انتهى‏.‏ وليست غلطاً، ولها وجه في العربية وهو أنّ الشرط والجزاء يجوز أن يأتي بعدهما المضارع منصوباً بإضمار أن بعد الفاء، كقراءة من قرأ‏:‏ ‏{‏وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر‏}‏ بنصب يغفر بإضمار أنْ بعد الفاء‏.‏ ولا فرق في ذلك بين أن تكون أداة الشرط جازمة، أو غير جازمة‏.‏ وقرأ نصر بن عاصم، والحسن، وأبو حيوة، وابن السميقع، ومجاهد، وعيسى، وابن محيصن‏:‏ فنجى، جعلوه فعلاً ماضياً مخفف الجيم‏.‏ وقال أبو عمرو الداني‏:‏ وقرأت لابن محيصن فنجى بشد الجيم فعلاً ماضياً على معنى فنجى النصر‏.‏ وذكر الداني أنّ المصاحف متفقة على كتبها بنون واحدة‏.‏ وفي التحبير أنّ الحسن قرأ فننجى بنونين، الثانية مفتوحة، والجيم مشددة، والياء ساكنة‏.‏ وقرأ أبو حيوة‏:‏ من يشاء بالياء أي‏:‏ فنجى من يشاء الله نجاته‏.‏ ومن يشاء هم المؤمنون لقوله‏:‏ ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين، والبأس هنا الهلاك‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ بأسه بضمير الغائب أي‏:‏ بأس الله‏.‏ وهذه الجملة فيها وعيد وتهديد لمعاصري الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 111‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

الضمير في قصصهم عائد على الرسل، أو على يوسف وأبويه وإخوته، أو عليهم وعلى الرسل ثلاثة أقوال‏.‏

الأول‏:‏ اختاره الزمخشري قال‏:‏ وينصره قراءة من قرأ قصصهم بكسر القاف انتهى‏.‏ ولا ينصره إذ قصص يوسف وأبيه وأخوته مشتمل على قصص كثيرة وأنباء مختلفة‏.‏ والذي قرأ بكسر القاف هو أحمد بن جبير الانطاكي عن الكسائي، والقصبي عن عبد الوارث عن أبي عمر وجمع قصة‏.‏ واختار ابن عطية الثالث، بل لم يذكره غيره‏.‏ والعبرة الدلالة التي يعبر بها عن العلم‏.‏ وإذا عاد الضمير على يوسف عليه السلام وأبويه وإخوته، فالاعتبار بقصصهم من وجوه إعزاز يوسف عليه السلام بعد إلقائه في الجب، وإعلاؤه بعد حبسه في السجن، وتملكه مصر بعد استعباده، واجتماعه مع والديه وإخوته على ما أحب بعد الفرقة الطويلة‏.‏ والإخبار بهذا القصص إخباراً عن الغيب، والإعلام بالله تعالى من العلم والقدرة والتصرف في الأشياء على ما لا يخطر على بال ولا يجول في فكر‏.‏ وإنما خص أولو الألباب لأنهم هم الذين ينتفعون بالعبر، ومن له لب وأجاد النظر، ورأى ما فيها من امتحان ولطف وإحسان، علم أنه أمر من الله تعالى، ومن عنده تعالى‏.‏ والظاهر أنّ اسم كان مضمر يعود على القصص أي‏:‏ ما كان القصص حديثاً مختلفاً، بل هو حديث صدق ناطق بالحق جاء به من لم يقرأ الكتب، ولا تتلمذ لأحد، ولا خالط العلماء، فمحال أن يفتري هذه القصة بحيث تطابق ما ورد في التوراة من غير تفاوت‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على القرآن أي‏:‏ ما كان القرآن الذي تضمن قصص يوسف عليه السلام وغيره حديثاً يختلق، ولكن كان تصديق الكتب المتقدمة الإلهية، وتفصيل كل شيء واقع ليوسف مع أبويه وإخوته إن كان الضمير عائداً على قصص يوسف، أو كل شيء مما حتاج إلى تفصيله في الشريعة إن عاد على القرآن‏.‏ وقرأ حمران بن أعين، وعيسى الكوفي فيما ذكر صاحب اللوامح، وعيسى الثقفي فيما ذكر ابن عطية‏:‏ تصديق وتفصيل وهدى ورحمة برفع الأربعة أي‏:‏ ولكن هو تصديق، والجمهور بالنصب على إضمار كان أي‏:‏ ولكن تصديق أي‏:‏ كان هو، أي الحديث ذا تصديق الذي بين يديه‏.‏ وينشد قول ذي الرمة‏:‏

وما كان مالي من تراب ورثته *** ولا دية كانت ولا كسب ماثم

ولكن عطاء الله من كل رحلة *** إلى كل محجوب السوارق خضرم

بالرفع في عطاء ونصبه أي‏:‏ ولكن هو عطاء الله، أو ولكن كان عطاء الله‏.‏ ومثله قول لوط بن عبيد العائي اللص‏:‏

وإني بحمد الله لا مال مسلم *** أخذت ولا معطي اليمين محالف

ولكن عطاء الله من مال فاجر *** قصى المحل معور للمقارف

وهدى أي سبب هداية في الدنيا، ورحمة أي‏:‏ سبب لحصول الرحمة في الآخرة‏.‏ وخص المؤمنون بذلك لأنهم هم الذين ينتفعون بذلك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هدى للمتقين‏}‏ وتقدم أول السورة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أنزلناه قرآناً عربياً‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نحن نقص عليك أحسن القصص‏}‏ وفي آخرها‏:‏ ما كان حديثاً يفترى إلى آخره، فلذلك احتمل أن يعود الضمير على القرآن، وأن يعود على القصص والله تعالى أعلم‏.‏

سورة الرعد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏1‏)‏ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

هذه السورة مكية في قول‏:‏ الحسن، وعكرمة، وعطاء، وابن جبير‏.‏ وعن عطاء إلا قوله‏:‏ ‏{‏ويقول الذين كفروا لست مرسلاً‏}‏ وعن غيره إلا قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي يريكم البرق‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏له دعوة الحق‏}‏ ومدنية في قوله‏:‏ الكلبي، ومقاتل، وابن عباس، وقتادة، واستثنيا آيتين قالا‏:‏ نزلتا بمكة وهما ‏{‏ولو أن قرآناً سيرت به الجبال‏}‏ إلى آخرهما وعن ابن عباس إلا قوله‏:‏ ‏{‏ولا يزال الذين كفروا‏}‏ إلى آخر الآية وعن قتادة مكية إلا قوله‏:‏ ‏{‏ولا يزال الذين كفروا‏}‏ الآية حكاه المهدوي‏.‏ وقيل‏:‏ السورة مدنية حكاه القاضي منذر بن سعد البلوطي ومكي بن أبي طالب‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ تلك إشارة إلى آيات السورة، والمراد بالكتاب السورة أي‏:‏ تلك آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ من قال حروف أوائل السور مثال الحروف المعجم قال‏:‏ الإشارة هنا بتلك هي إلى حروف المعجم، ويصح على هذا أنْ يكون الكتاب يراد به القرآن، ويصح أن يراد به التوراة والإنجيل‏.‏ والمر على هذا ابتداء، وتلك ابتداء ثان، وآيات خبر الثاني، والجملة خبر الأول انتهى‏.‏ ويكون الرابط اسم الإشارة وهو تلك‏.‏ وقيل‏:‏ الإشارة بتلك إلى ما قص عليه من أنباء الرسل المشار إليه بقوله‏:‏ تلك من أنباء الغيب، والذي قال‏:‏ ويصح أن يراد به التوراة والإنجيل، هو قريب من قول مجاهد وقتادة، والإشارة بتلك إلى جميع كتب الله تعالى المنزلة‏.‏ ويكون المعنى‏:‏ تلك الآيات التي قصصت عليك خبرها هي آيات الكتاب الذي أنزلته قبل هذا الكتاب الذي أنزلته إليك‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ والذي مبتدأ، والحق خبره، ومن ربك متعلق بانزل‏.‏ وأجاز الحوفي أن يكون من ربك الخبر، والحق مبتدأ محذوف، أو هو خبر بعد خبر، أو كلاهما خبر واحد انتهى‏.‏ وهو إعراب متكلف‏.‏ وأجاز الحوفي أيضاً أن يكون والذي في موضع رفع عطفاً على آيات، وأجاز هو وابن عطية أن يكون والذي في موضع خفض‏.‏ وعلى هذين الإعرابين يكون الحق خبر مبتدأ محذوف أي‏:‏ هو الحق، ويكون والذي أنزل مما عطف فيه الوصف على الوصف وهما لشيء واحد كما تقول‏:‏ جاءني الظريف العاقل وأنت تريد شخصاً واحداً‏.‏ ومن ذلك قول الشاعر‏:‏

إلى الملك القرم وابن الهام *** وليث الكتيبة في المزدحم

وأجاز الحوفي أن يكون الحق صفة الذي يعني‏:‏ إذا جعلت والذي معطوفاً على آيات‏.‏

وأكثر الناس قيل‏:‏ كفار مكة لا يصدقون أن القرآن منزل من عند الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به اليهود والنصارى، والأولى أنه عام‏.‏ ولما ذكر انتفاء الإيمان عن أكثر الناس، ذكر عقيبه ما يدل على صحة التوحيد والمعاد وما يجذبهم إلى الإيمان فيما يفكر فيه العاقل ويشاهده من عظيم القدرة وبديع الصنع‏.‏ والجلالة مبتدأ، والذي هو الخبر بدليل قوله تعالى‏:‏

‏{‏وهو الذي مد الأرض‏}‏ ويجوز أن يكون صفة‏.‏ وقوله‏:‏ يدبر الأمر يفصل الآيات خبراً بعد خبر، وينصره ما تقدمه من ذكر الآيات قاله الزمخشري‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ عمد بفتحتين‏.‏ وقرأ أبو حيوة، ويحيى بن وثاب‏:‏ بضمتين، وبغير عمد في موضع الحال أي‏:‏ خالية عن عمد‏.‏ والضمير في ترونها عائد على السموات أي‏:‏ تشاهدون السموات خالية عن عمد‏.‏ واحتمل هذا الوجه أن يكون ترونها كلاماً مستأنفاً، واحتمل أن يكون جملة حالية أي‏:‏ رفعها مرئية لكم بغير عمد‏.‏ وهي حال مقدرة، لأنه حين رفعها لم نكن مخلوقين‏.‏ وقيل‏:‏ ضمير النصب في ترونها عائد على عمد أي‏:‏ بغير عمد مرئية، فترونها صفة للعمد‏.‏ ويدل على كونه صفة لعمد قراءة أبي‏:‏ ترونه، فعاد الضمير مذكراً على لفظ عمد، إذ هو اسم جمع‏.‏ قال أي ابن عطية‏:‏ اسم جمع عمود والباب في جمعه عمد بضم الحروف الثلاثة كرسول ورسل انتهى‏.‏ وهو وهم، وصوابه‏:‏ بضم الحرفين، لأن الثالث هو حرف الإعراب فلا يعتبر ضمه في كيفية الجمع‏.‏ هذا التخريج يحتمل وجهين‏:‏ أحدهما أنها لها عمد، ولا ترى تلك العمد، وهذا ذهب إليه مجاهد وقتادة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ وما يدريك أنها بعمد لا ترى‏؟‏ وحكى بعضهم أن العمد جبل قاف المحيط بالأرض، والسماء عليه كالقبة‏.‏ والوجه الثاني‏:‏ أن يكون نفي العمد، والمقصود نفي الرؤية عن العمد، فلا عمد ولا رؤية أي‏:‏ لا عمد لها فترى‏.‏ والجمهور على أن السموات لا عمد لها البتة، ولو كان لها عمد لاحتاجت تلك العمد إلى عمد، ويتسلسل الأمر، فالظاهر أنها ممسكة بالقدرة الإلهية‏.‏ ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه‏}‏ ونحو هذا من الآيات‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ العماد ما يعتمد عليه، وهذه الأجسام واقفة في الحيز العالي بقدرة الله تعالى، فعمدها قدرة الله تعالى، فلها عماد في الحقيقة‏.‏ إلا أن تلك العمد إمساك الله تعالى وحفظه وتدبيره وإبقاؤه إياها في الحيز العالي، وأنتم لا ترون ذلك التدبير، ولا تعرفون كيفية ذلك الإمساك انتهى‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ ليست من دونها دعامة تدعمها، ولا فوقها علاقة تمسكها‏.‏ وأبعد من ذهب إلى أنّ ترونها خبر في اللفظ ومعناه الأمر أي‏:‏ رها وانظروا هل لها من عمد‏؟‏ وتقدم تفسير ‏{‏ثم استوى على العرش‏}‏ قال ابن عطية‏:‏ ثم هنا العطف الجمل لا للترتيب، لأنّ الاستواء على العرش قبل رفع السموات‏.‏ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض» انتهى‏.‏ وسخر الشمس والقمر أي‏:‏ ذللهما لما يريد منهما‏.‏ وقيل‏:‏ لمنافع العباد‏.‏ وعبر بالجريان عن السير الذي فيه سرعة، وكل مضافة في التقدير، والظاهر أنّ المحذوف هو ضمير الشمس والقمر أي‏:‏ كليهما يجري إلى أجل مسمى‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ والشمس والقمر في ضمن ذكرهما ذكر الكواكب، ولذلك قال‏:‏ كل يجري لأجل مسمى، أي‏:‏ كل ما هو في معنى الشمس والقمر من المسخر، وكل لفظة تقتضي الإضافة ظاهرة أو مقدرة انتهى‏.‏ وشرح كل بقوله أي‏:‏ كل ما هو في معنى الشمس والقمر ما أخرج الشمس والقمر من ذكر جريانهما إلى أجل مسمى، وتحريره أن يقول على زعمه‏:‏ إن الكواكب في ضمن ذكرهما أي، ومما هو في معناهما إلى أجل مسمى‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ منازل الشمس والقمر وهذ الحدود التي لا تتعداها، قدر لكل منهما سيراً خاصاً إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء‏.‏ وقيل‏:‏ الأجل المسمى هو يوم القيامة، فعند مجيئه ينقطع ذلك الجريان والتسيير كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذا الشمس كورت‏}‏ وقال‏:‏ وجمع الشمس والقمر، ومعنى تدبير الأمر إنفاذه وإبرامه، وعبر بالتدبير تقريباً للإفهام، إذ التدبير إنما هو النظر في إدبار الأمور وعواقبها وذلك من صفات البشر، والأمر أمر ملكوته وربوبيته، وهو عام في جميع الأمور من إيجاد وإعدام وإحياء وإماتة وإنزال وحي وبعث رسل وتكليف وغير ذلك‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يدبر الأمر يقضيه وحده، ويفصل الآيات يجعلها فصولاً مبينة مميزاً بعضها من بعض‏.‏ والآيات هنا دلائله وعلاماته في سمواته على وحدانيته، أو آيات الكتب المنزلة، أو آيات القرآن أقوال‏.‏

وقرأ النخعي، وأبو رزين، وابان بن ثعلب، عن قتادة‏:‏ ندبر الأمر نفصل بالنون فيهما، وكذا قال أبو عمرو الداني عن الحسن فيهما، وافق في نفصل بالنون الخفاف، وعبد الواحد عن أبي عمرو، وهبيرة عن حفص‏.‏ وقال صاحب اللوامح‏:‏ جاء عن الحسن والأعمش نفصل بالنون فقط‏.‏ وقال المهدوي‏:‏ لم يختلف في يدبر، أو ليس كما قال‏؟‏ إذ قد تقدمت قراءة ابان‏.‏ ونقل الداني عن الحسن‏:‏ والذي تقتضيه الفصاحة أن هاتين الجملتين استفهام إخبار عن الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ يدبر حال من الضمير في وسخر، ونفصل حال من الضمير في يدبر، والخطاب في لعلكم للكفرة، وتوقنون بالجزاء أو بأنّ هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية‏.‏ ومد الأرض‏:‏ بسطها طولاً وعرضاً ليمكن التصرف فيها، والاستقرار عليها‏.‏ قيل‏:‏ مدها ودحاها من مكة من تحت البيت، فذهبت كذا وكذا‏.‏ وقيل‏:‏ كانت مجتمعة عند بيت المقدس فقال لها‏:‏ اذهبي كذا وكذا‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقوله مد الأرض، يقتضي أنها بسيطة لا كرة، وهذا هو ظاهر الشريعة‏.‏ قال أبو عبد الله الداراني‏:‏ ثبت بالدليل أنّ الأرض كرة، ولا ينافي ذلك قوله‏:‏ مد الأرض، وذلك أنّ الأرض جسم عظيم‏.‏ والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان قطعة منها تشاهد كالسطح، والتفاوت بينه وبين السطح لا يحصل إلا في علم الله تعالى‏.‏ ألا ترى أنه قال‏:‏ ‏{‏والجبال أوتاداً‏}‏ مع أن العالم والناس يسيرون عليها فكذلك هنا‏.‏ وأيضاً إنما ذكر مد الأرض ليستدل به على وجود الصانع، وكونها مجتمعة تحت البيت أمر غير مشاهد ولا محسوس، فلا يمكن الاستدلال به على وجود الصانع‏.‏ فتأويل مد الأرض أنه جعلها بمقدار معين، وكونها تقبل الزيادة والنقص أمر جائز ممكن في نفسه، فالاختصاص بذلك المقدار المعين لا بد أن يكون بتخصيص مخصص، وتقدير مقدر، وبهذا يحصل الاستدلال على وجود الصانع انتهى ملخصاً‏.‏ وقال أبو بكر الأصم‏:‏ المد البسط إلى ما لا يرى منتهاه، فالمعنى‏:‏ جعل الأرض حجماً يسيراً لا يقع البصر على منتهاه، فإن الأرض لو كانت أصغر حجماً مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع به انتهى‏.‏ وهذا الذي ذكره من أنها لو كانت أصغر إلى آخره غير مسلم، لأن المنتفع به من الأرض المعمور، والمعمور أقل من غير المعمور بكثير‏.‏ فلو أراد تعالى أن يجعلها مقدار المعمور المنتفع به لم يكن ذلك ممتنعاً، فتحصل في قوله‏:‏ مد الأرض ثلاث تأويلات بسطها بعد أن كانت مجتمعة، واختصاصها بمقدار معين وجعل حجمها كبيراً لا يرى منتهاه‏.‏ والرواسي الثوابت، ومنه قول الشاعر‏:‏

به خالدات ما يرمن وهامد *** وأشعت أرسته الوليدة بالقهر

والمعنى‏:‏ جبالاً رواسي، وفواعل الوصف لا يطرد إلا في الإناث، إلا أنّ جمع التكسير من المذكر الذي لا يعقل يجري مجرى جمع الإناث‏.‏ وأيضاً فقد غلب على الجبال وصفها بالرواسي، وصارت الصفة تغني عن الموصوف، فجمع جمع الإسم كحائط وحوائط وكاهل وكواهل‏.‏ وقيل‏:‏ رواسي جمع راسية، والهاء للمبالغة، وهو وصف الجبل‏.‏ كانت الأرض مضطربة فثقلها الله بالجبال في أحيازها فزال اضطرابها، والاستدلال بوجود الجبال على وجود الصانع القادر الحكيم‏.‏ قيل‏:‏ من جهة أنّ طبيعة الأرض واحدة، فحصول الجبل في بعض جوانبها دون بعض لا بد أن يكون بتخليق قادر حكيم، ومن جهة ما يحصل منها من المعادن الجوهرية والرخامية وغيرها كالنفط والكبريت يكون الجبل واحداً في الطبع، وتأثير الشمس واحد دليل على أنّ ذلك بتقدير قاد قاهر متعال عن مشابهة الممكنات، ومن جهة تولد الأنهار منها‏.‏

قيل‏:‏ وذلك لأنّ الجبل جسم صلب، ويتصاعد بخاره من قعر الأرض إليه ويحتبس هناك، فلا يزال يتكامل فيه فيحصل بسببه مياه كثيرة، فلقوتها تشق وتخرج وتسيل على وجه الأرض، ولهذا في أكثر الأمر إذا ذكر الله تعالى الجبال ذكر الأنهار كهذه الآية‏.‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا‏}‏ ‏{‏وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً‏}‏ فقال المفسرون‏:‏ الأنهار المياه الجارية في الأرض‏.‏ وقال الكرماني‏:‏ مسيل الماء، وتقدم الكلام في الأنهار في أوائل سورة البقرة‏.‏ والظاهر أنّ قوله‏:‏ من كل الثمرات متعلق بجعل‏.‏ ولما ذكر الأنهار ذكر ما ينشأ عنها وهو الثمرات، والزوج هنا الصنف الواحد الذي هو نقيض الاثنين، يعني أنه حين مد الأرض جعل ذلك، ثم تكثرت وتنوعت‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالزوجين الأسود والأبيض، والحلو والحامض، والصغير والكبير، وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة موجود فيها نوعان، فإن اتفق أن يوجد من ثمرة أكثر من نوعين فغير ضار في معنى الآية‏.‏ وقال الكرماني‏:‏ الزوج واحد، والزوج اثنان، ولهذا قيد ليعلم أنّ المراد بالزوج هنا الفرد لا التثنية، فيكون أربعاً‏.‏ وخص اثنين بالذكر، وإن كان من أجناس الثمار ما يزيد على ذلك لأنه الأقل، إذ لا نوع تنقص أصنافه عن اثنين انتهى‏.‏ ويقال‏:‏ إن في كل ثمرة ذكر وأنثى، وأشار إلى ذلك الفراء‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ لما خلق الله تعالى العالم وخلق فيه الأشجار، خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط‏.‏ فلو قال‏:‏ خلق زوجين، لم يعلم أنّ المراد النوع أو الشخص، فلما قال‏:‏ اثنين علمنا أنه أول ما خلق من كل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد‏.‏ فالشجر والزرع كبني آدم، حصل منهم كثرة، وابتداؤهم من زوجين اثنين بالشخص وهما آدم وحواء‏.‏ والاستدلال بخلق الثمرات على ما ذكر تعالى من جهة ربو الجنة في الأرض، وشق أعلاها وأسفلها، فمن الشق الأعلى الشجرة الصاعدة، ومن الأسفل العروق الغائصة، وطبيعة تلك الجنة واحدة، وتأثيرات الطبائع والأفلاك والكواكب فيها واحد‏.‏ ثم يخرج من الأعلى ما يذهب صعداً في الهواء، ومن الأسفل ما يغوص في الثرى، ومن المحال أن يتولد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان، فعلمنا أن ذلك بتقدير قادر حكيم‏.‏ ثم تلك الشجرة يكون بعضها خشباً، وبعضها لوزاً، وبعضها ثمراً، ثم تلك الثمرة يحصل فيها أجسام مختلفة الطبائع وذلك بتقدير القادر الحكيم انتهى‏.‏ وفيه تلخيص‏.‏ وقيل‏:‏ تم الكلام عند قوله‏:‏ ومن كل الثمرات، فيكون معطوفاً على ما قبله من عطف المفردات، ويتعلق بقوله‏:‏ وجعل فيها رواسي‏.‏ فالمعنى‏:‏ أنه جعل في الأرض من كل ذكر وأنثى اثنين، وقيل‏:‏ الزوجان الشمس والقمر، وقيل‏:‏ الليل والنهار، يغشي الليل النهار تقدم تفسير هذه الجملة وقراآتها في الأعراف‏.‏ وخص المتفكرين لأنّ ما احتوت عليه هذه الآيات من الصنيع العجيب لا يدرك إلا بالتفكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قطع جمع قطعة وهي الجزء‏.‏ ومتجاورات متلاصقة متداينة، قريب بعضها من بعض‏.‏ قال ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية، والضحاك‏:‏ أرض طيبة وأرض سبخة، نبتت هذه، وهذه إلى جنبها لا تنبت‏.‏ وقال ابن قتيبة وقتادة‏:‏ يعني القرى المتجاورة‏.‏ وقيل‏:‏ متجاورة في المكان، مختلفة في الصفة، صلبة إلى رخوة‏.‏ وسحراً إلى مرد أو مخصبة إلى مجدبة، وصالحة للزرع لا للشجر، وعكسها مع انتظام جميعها في الأرضية‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام حذف معطوف أي‏:‏ وغير متجاورات‏.‏ والمتجاورات المدن وما كان عامراً، وغير المتجاورات الصحاري وما كان غير عامر‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والذي يظهر من وصفه لها بالتجاور إنما هو من تربة واحدة، ونوع واحد‏.‏ وموضع العبرة في هذا أبين، لأنها مع اتفاقها في الترب والماء تفضل القدرة والإرادة بعض أكلها على بعض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن هذه الآية فقال‏:‏ «الدقل، والقارس، والحلو، والحامض» وقال ابن عطية‏:‏ وقيد منها في هذه المثال ما جاور وقرب بعضه من بعض، لأن اختلاف ذلك في الأكل أغرب‏.‏ وفي بعض المصاحف‏:‏ قطعاً متجاورات بالنصب على جعل‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ وجنات بالرفع، وقرأ الحسن‏:‏ بالنصب، بإضمار فعل‏.‏ وقيل‏:‏ عطفاً على رواسي‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ بالعطف على زوجين اثنين، أو بالجر على كل الثمرات انتهى‏.‏ والأولى إضمار فعل لبعد ما بين المتعاطفين في هذه التخاريج، والفصل بينهما بجمل كثيرة‏.‏ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص‏:‏ وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان بالرفع في الجميع على مراعاة قطع‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ عطفاً على أعناب، وليست عبارة محررة أيضاً، لأن فيها ما ليس بعطف وهو قوله‏:‏ صنوان‏.‏ وقرأ باقي السباعة‏:‏ بخفض الأربعة على مراعاة من أعناب قال‏:‏ وجعل الجنة من الأعناب من رفع الزرع، والجنة حقيقة إنما هي الأرض التي فيها الأعناب، وفي ذلك تجوز ومنه قول الشاعر‏:‏

كأن عيني في غربي مقبلة *** من النواضح تسقي جنة سحقه

أي نخيل جنة إذ لا يوصف بالسحق إلا النخل‏.‏ ومن خفض الزرع فالجنات من مجموع ذلك لا من الزرع وحده، لأنه لا يقال للمزرعة جنة إلا إذا خالطها ثمرات‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ صنوان بكسر الصاد فيهما، وابن مصرف والسلمي وزيد بن علي‏:‏ بضمها، والحسن وقتادة بفتحها، وبالفتح هو اسم للجمع، كالسعدان‏.‏ وقرأ عاصم، وابن عامر، وزيد بن علي‏:‏ يسقى بالياء، أي‏:‏ يسقى ما ذكر‏.‏ وباقي السبعة بالتاء، وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وأهل مكة‏.‏ أنثوا لعود الضمير على لفظ ما تقدم، ولقوله‏:‏ ونفضل بالنون‏.‏ وحمزة والكسائي بالياء، وابن محيصن بالياء في تسقي، وفي نفضل‏.‏ وقرأ يحيى بن يعمر، وأبو حيوة، والحلبي عن عبد الوارث‏:‏ ويفضل بالياء، وفتح الضاد بعضها بالرفع‏.‏

قال أبو حاتم‏:‏ وجدته كذلك في مصحف يحيى بن يعمر، وهو أول من نقط المصاحف‏.‏ وتقدم في البقرة خلاف القراء في ضم الكاف من الأكل وسكونها‏.‏ والأكل بضم الهمزة المأكول كالنقض بمعنى المنقوض، وبفتحها المصدر‏.‏ والظاهر من تفسير أكثر المفسرين للصنوان أن يكون قوله‏:‏ صنوان، صفة لقوله‏:‏ ونخيل‏.‏ ومن فسره منهم بالمثل جعله وصفاً لجميع ما تقدم أي‏:‏ أشكال، وغيره إشكال‏.‏ قيل‏:‏ ونظير هذه الكلمة قنو وقنوان، ولا يوجد لهما ثالث ونص على الصنوان لأنها بمثال التجاور في القطع، فظهر فيها غرابة اختلاف الأكل‏.‏ ومعنى بماء واحد‏:‏ ماء مطر، أو ماء بحر، أو ماء نهر، أو ماء عين، أو ماء نبع لا يسيل على وجه الأرض‏.‏ وخص التفضيل في الأكل وإن كانت متفاضلة في غيره، لأنه غالب وجوه الانتفاع من الثمرات‏.‏ ألا ترى إلى تقاربها في الأشكال، والألوان، والروائح، والمنافع، وما يجري مجرى ذلك‏؟‏ قيل‏:‏ نبه الله تعالى في هذه الآية على قدرته وحكمته، وأنه المدبر للأشياء كلها، وذلك أن الشجرة تخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا تتأخر عنه ولا تتقدم، ثم يتصعد الماء في ذلك الوقت علواً علواً وليس من طبعه إلا التسفل، يتفرق ذلك الماء في الورق والأغصان والثمر كل بقسطه وبقدر ما فيه صلاحه، ثم تختلف طعوم الثمار والماء واحد، والشجر جنس واحد‏.‏ وكل ذلك دليل على مدبر دبره وأحكمه، لا يشبه المخلوقات‏.‏ قال الراجز‏:‏

والأرض فيها عبرة للمعتبر *** تخبر عن صنع مليك مقتدر

تسقى بماء واحد أشجارها *** وبقعة واحدة قرارها

والشمس والهواء ليس يختلف *** وأكلها مختلف لا يأتلف

لو أن ذا من عمل الطبائع *** أو أنه صنعة غير صانع

لم يختلف وكان شيئاً واحداً *** هل يشبه الأولاد إلا الوالدا

الشمس والهواء يا معاند *** والماء والتراب شيء واحد

فما الذي أوجب ذا التفاضلا *** إلا حكيم لم يرده باطلا

وقال الحسن‏:‏ هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم، كانت الأرض طينة واحدة فسطحها، فصارت قطعاً متجاورات، فنزل عليها ماء واحد من السماء فتخرج هذه زهرة وثمرة، وتخرج هذه سبخة وملحاً وخبثاً‏.‏ وكذلك الناس خلقوا من آدم‏.‏ فنزلت عليهم من السماء مذكرة، قربت قلوب وخشعت قلوب، وقست قلوب ولهت قلوب‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً‏}‏ انتهى، وهو شبيه بكلام الصوفية‏.‏ إنّ في ذلك قال ابن عباس‏:‏ في اختلاف الألوان والروائح والطعوم، لآيات‏:‏ لحججاً ودلالات لقوم يعقلون‏:‏ يعلمون الأدلة فيستدلون بها على وحدانية الصانع القادر‏.‏ ولما كان الاستدلال في هذه الآية بأشياء في غاية الوضوح من مشاهدة تجاور القطع، والجنات وسقيها وتفضيلها، جاء ختمها بقوله‏:‏ لقوم يعقلون، بخلاف الآية التي قبلها، فإن الاستدلال بها يحتاج إلى تأمل ومزيد نظر جاء ختمها بقوله لقوم يتفكرون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏5‏)‏ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

ولما أقام الدلائل على عظيم قدرته بما أودعه من الغرائب في ملكوته التي لا يقدر عليها سواه، عجب الرسول عليه الصلاة والسلام من إنكار المشركين وجدانيته، وتوهينهم قدرته لضعف عقولهم فنزل‏.‏ وإن تعجب قال ابن عباس‏:‏ وإن تعجبْ من تكذيبهم إياك بعدما كانوا حكموا عليك أنك من الصادقين، فهذا أعجب‏.‏ وقيل‏:‏ وإن تعجب يا محمد من عبادتهم ما لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً بعدما عرفوا الدلائل الدالة على التوحيد، فهذا أعجب‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وإن تعجب من قولهم يا محمد في إنكار البعث، فقولهم عجيب حقيق بأنْ يتعجب منه، لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة، ولم يعي بخلقهن، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب انتهى‏.‏ وليس مدلول اللفظ ما ذكر، لأنه جعل متعلق عجبه صلى الله عليه وسلم هو قولهم في إنكار البعث، فاتحد الجزاء والشرط، إذ صار التقدير‏:‏ وإن تعجب من قولهم في إنكار البعث فاعجب من قولهم في إنكار البعث، وإنما مدلول اللفظ أن يقع منك عجب، فليكن من قولهم‏:‏ أءذا كنا الآية‏.‏ وكان المعنى الذي ينبغي أن يتعجب منه‏:‏ هو إنكار البعث، لأنه تعالى هو المخترع للأشياء‏.‏ ومن كان قادراً على إبرازها من العدم الصرف كان قادراً على الإعادة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده‏}‏ وهو أهون عليه أي‏:‏ هين عليه‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ هذه الآية توبيخ للكفرة، أي‏:‏ إن تعجب يا محمد من جهالتهم وإعراضهم عن الحق، فهم أهل لذلك، وعجيب وغريب أن تنكر قلوبهم العود بعد كوننا خلقاً جديداً‏.‏ ويحتمل اللفظ منزعاً آخر‏:‏ إن كنت تريد عجباً فهلم، فإنّ من أعجب العجب قولهم انتهى‏.‏ واختلف القراء في الاستفهامين إذا اجتمعا في أحد عشر موضعاً، هنا موضع، وكذا في المؤمنين، وفي العنكبوت، وفي النمل، وفي السجدة، وفي الواقعة، وفي والنازعات، وفي بني إسرائيل موضعان، وكذا في والصافات‏.‏ وقرأ نافع والكسائي بجعل الأول استفهاماً، والثاني خبراً، إلا في العنكبوت والنمل بعكس نافع‏.‏ وجمع الكسائي بين الاستفهامين في العنكبوت، وأما في النمل فعلى أصله إلا أنه زاد نوناً فقرأ‏:‏ ‏{‏إننا لمخرجون‏}‏ وقرأ ابن عامر بجعل الأول خبراً، والثاني استفهاماً، إلا في النمل والنازعات فعكس، وزاد في النمل نوناً كالكسائي‏.‏ وإلا في الواقعة فقرأهما باستفهامين، وهي قراءة باقي السبعة في هذا الباب، إلا ابن كثير وحفصاً قرأ في العنكبوت بالخبر في الأول وبالاستفهام في الثاني، وهم على أصولهم في اجتماع الهمزتين من تخفيف وتحقيق وفصل بين الهمزتين وتركه‏.‏ وقولهم‏:‏ فعجب، هو خبر مقدم ولا بد فيه من تقدير صفة، لأنه لا يتمكن المعنى بمطلق فلا بد من قيده وتقديره والله أعلم‏:‏ فعجب أي عجب، أو فعجب غريب‏.‏

وإذا قدرناه موصوفاً جاز أن يعرب مبتدأ لأنه نكرة فيها مسوغ الابتداء وهو الوصف، وقد وقعت موقع الابتداء، ولا يضر كون الخبر معرفة ذلك‏.‏ كما أجاز سيبويه ذلك في كم مالك‏؟‏ لمسوغ الابتداء فيه وهو الاستفهام، وفي نحو‏:‏ اقصد رجلاً خير منه أبوه، لمسوغ الابتداء أيضاً، وهو كونه عاملاً فيما بعده‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ وقيل عجب بمعنى معجب، قال‏:‏ فعلى هذا يجوز أن يرتفع قولهم به انتهى‏.‏ وهذا الذي أجازه لا يجوز، لأنه لا يلزم من كون الشيء بمعنى الشيء أن يكون حكمه في العمل كحكمه، فمعجب يعمل، وعجب لا يعمل، ألا ترى أن فعلاً كذبح، وفعلاً كقبض، وفعلة كغرفة، هي بمعنى مفعول، ولا يعمل عمله، فلا تقول‏:‏ مررت برجل ذبح كبشه، ولا برجل قبض ماله، ولا برجل غرف ماءه، بمعنى مذبوح كبشه ومقبوض ماله ومعروف ماؤه‏.‏ وقد نصوا على أن هذه تنوب في الدلالة لا في العمل عن المفعول‏.‏ وقد حصر النحويون ما يرفع الفاعل، والظاهر أن أءذا معمول لقولهم محكى به‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أءذا كنا إلى آخر قولهم يجوز أن يكون في محل الرفع بدلاً من قولهم انتهى‏.‏ هذا إعراب متكلف، وعدول عن الظاهر‏.‏ وإذا متمحضة للظرف وليس فيها معنى الشرط، فالعامل فيها محذوف يفسره ما يدل عليه الجملة الثانية وتقريره‏:‏ أنبعث، أو أنحشر‏.‏ أولئك إشارة إلى قائل تلك المقالة، وهو تقرير مصمم على إنكار البعث، فلذلك حكم عليهم بالكفر إذ عجزوا قدرته من إعادة ما أنشأ واخترع ابتداء‏.‏ ولما حكم عليهم بالكفر في الدنيا ذكر ما يؤولون إليه في الآخرة على سبيل الوعيد، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم‏.‏ والظاهر أنّ الأغلال تكون حقيقة في أعناقهم كالأغلال، ثم ذكر ما يستقرون عليه في الآخرة، كما قال‏:‏ إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل‏.‏ وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون مجازاً أي‏:‏ هم مغلولون عن الإيمان، فتجري إذاً مجرى الطبع والختم على القلوب كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً‏}‏ وكما قال الشاعر‏:‏

لهم عن الرشد أغلال وأقياد *** وقيل‏:‏ الأغلال هنا عبارة عن أعمالهم الفاسدة في أعناقهم كالأغلال، ثم ذكر ما يستقرون عليه في الآخرة، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم رادة عليهم ما أنكروه من البعث، إذ لا يكون أصحاب النار إلا بعد الحشر‏.‏ ولما كانوا متوعدين بالعذاب إن أصروا على الكفر، وكانوا مكذبين بما أنذروا به من العذاب، سألوا واستعجلوا في الطلب أن يأتيهم العذاب وذلك على سبيل الاستهزاء كما قالوا‏:‏ ‏{‏فأمطر علينا حجارة‏}‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ السيئة العذاب، والحسنة العافية‏.‏ وقال قتادة‏:‏ بالشر قبل الخير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏

عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏ لما نزلت وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره فقال‏:‏ «أنا منذر» وأومأ بيده إلى منكب عليّ وقال‏:‏ «أنت الهادي يا عليّ، بك يهتدى من بعدي» ‏"‏، وقال القشيري‏:‏ نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وعليّ بن أبي طالب، والذين كفروا مشركو العرب، أو من أنكر نبوته من مشركيهم والكفار، ولم يعتدوا بالآيات الخارقة المنزلة كانشقاق القمر، وانقياد الشجر، وانقلاب العصا سيفاً، ونبع الماء من بين الأصابع، وأمثال هذه‏.‏ فاقترحوا عناداً آيات كالمذكورة في سبحان، وفي الفرقان كالتفجير للينبوع، والرقي في السماء، والملك، والكنز، فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنما أنت منذر تخوفهم من سوء العاقبة، وناصح كغيرك من الرسل، ليس لك الإتيان بما اقترحوا‏.‏ إذ قد أتى بآيات عدد الحصا، والآيات كلها متماثلة في صحة الدعوى، لا تفاوت فيها‏.‏ فالاقتراح إنما هو عناد، ولم يجر الله العادة بإظهار الآيات المقترحة إلا للآية التي حتم بعذابها واستئصالها‏.‏

وهاد‏:‏ يحتمل أن يكون قد عطف على منذر، وفصل بينهما بقوله لكل قوم، وبه قال‏:‏ عكرمة، وأبو الضحى‏.‏ فإن أخذت‏:‏ ولكل قوم هاد، على العموم فمعناه‏:‏ وداع إلى الهدى، كما قال‏:‏ ‏{‏بعثت إلى الأسود والأحمر‏}‏ فإن أخذت هاد على حقيقته فلكل قوم مخصوص أي‏:‏ ولكل قوم قائلين هاد‏.‏ وقيل‏:‏ ولكل أمة سلفت هاد أي‏:‏ نبي يدعوهم، والقصد‏:‏ فليس أمرك ببدع ولا منكر، وبه قال‏:‏ مجاهد، وابن زيد، والزجاج قال‏:‏ نبي يدعوهم بما يعطي من الآيات، لا بما يتحكمون فيه من الاقتراحات‏.‏ وتبعهم الزمخشري‏.‏ فقال‏:‏ هاد من الأنبياء يهديهم إلى الدين، ويدعوهم إلى الله بوجه من الهداية، وبآية خص بها، ولم يجعل الأشياء شرعاً واحداً في آيات مخصوصة‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الهادي في هذه الآية هو الله تعالى، روي أن ذلك عن ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وهاد‏:‏ على هذا مخترع للإرشاد‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وألفاظ تتعلق بهذا المعنى، وتعرف أن الله تعالى هو الهادي من غير هذا الموضع‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ في هذا القول وجه آخر‏:‏ وهو أن يكون المعنى‏:‏ إنهم يجحدون كون ما أنزل عليك آيات ويعاندون، فلا يهمنك ذلك، إنما أنت منذر، فما عليك إلا أن تنذر، لا أنْ تثبت الإيمان بالإلجاء، والذي يثبته بالإلجاء هو الله تعالى انتهى‏.‏ ودلّ كلامه على الاعتزال‏.‏ وقال في معنى القول الذي تبع فيه مجاهد، وابن زيد ما نصه‏:‏ ولقد دل بما أردفه من ذكر آيات علمه وتقديره الأشياء على قضايا حكمته، أن أعطاء كل منذر آيات أمر مدبر بالعلم النافذ، مقدر بالحكمة الربانية‏.‏ ولو علم في إجابتهم إلى مقترحهم خيراً أو مصلحة لأجابهم إليه‏.‏

وقال الزمخشري أيضاً في معنى أن الهادي هو الله تعالى أي‏:‏ بالإلجاء على زعمه ما نصه‏:‏ وأما هذا الوجه الثاني فقد دل به على أنّ من هذه القدرة قدرته وهذا علمه، هو القادر وحده على هدايتهم العالم بأي طريق يهديهم، ولا سبيل إلى ذلك لغيره انتهى‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الهادي علي بن أبي طالب، وإن صح ما روي عن ابن عباس مما ذكرناه في صدر هذه الآية، فإنما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب مثالاً من علماء الأمّة وهداتها إلى الدين، فكأنه قال‏:‏ أنت يا علي هذا وصفك، ليدخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وسائر علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ثم كذلك علماء كل عصر، فيكون المعنى على هذا‏:‏ إنما أنت يا محمد منذر، ولكل قوم في القديم والحديث دعاة هداة إلى الخير‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ الهادي العمل‏.‏ وقال علي بن عيسى‏:‏ ولكل قوم سابق سبقهم إلى الهدى إلى نبي أولئك القوم‏.‏ وقيل‏:‏ هاد قائد إلى الخير أو إلى الشر قال تعالى في الخير‏:‏ ‏{‏وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد‏}‏ وقال في الشر‏:‏ ‏{‏فاهدوهم إلى صراط الحجيم‏}‏ قاله أبو صالح‏.‏ ووقف ابن كثير على هاد وواق حيث واقعا، وعلى وال هنا وباق في النخل بإثبات الياء، وباقي السبعة بحذفها‏.‏ وفي الإقناع لأبي جعفر بن الباذش عن ابن مجاهد‏:‏ الوقف على جميع الباب لابن كثير بالياء، وهذا لا يعرفه المكيون‏.‏ وفيه عن أبي يعقوب الأزرق عن ورش أنه خيره في الوقف في جميع الباب، بين أن يقف بالياء، وبين أن يقف بحذفها‏.‏ والباب هو كل منقوص منون غير منصرف‏.‏